يكون من تمحيص فكرة، أو تصحيح رأي، أو تحقيق مسالة، أو إذاعة دعوة في هذا السبيل.
كان. . . ثم انقضى!
إلى عهد أدركناه كان المولد النبوي الشريف موسما للأدب والشعر والفن والغناء وكان في هذا مجلى العبقريات الكبيرة والأصوات الرخيمة، والمواكب الضخمة الحافلة بكل لون وكانت مصر تمضي على هذا ثمانية أيام وكأنها في فرح شامل عام وكأني بالناس قد ابتدعوا بدعة الحلوى في المولد النبوي حتى يتخففوا من الطعام الثقيل ليفرغوا إلى ما ينشدون في مباهج المولد من متع الفن ومجاليه. . .
كان المولد النبوي موسما للسهرات العظيمة الممتعة بقيمها الأثرياء والوجهاء من أرباب البيوتات الكبيرة العريقة، ويستقدمون لإحيائها عباقرة المغنين وأهل الفن من أمثال عبدة الحموالي ويوسف المنيلاوي وأحمد ندا وعبد الحي ومحمد عثمان وغيرهم؛ ويفتحون أبوابها لرواد الحظوظ والسماع من سائر الطبقات، ويمدون في أسبابها إلى نفوس الفقراء بنحر الذبائح وإطعام الطعام. . .
وكان المولد النبوي موسما لأقامة الحضرات الشجية الفخمة، يقيمها أبناء الطريق على شروطهم ويحيها كبار المنشدين على ذوقهم، ويقبل عليها الناس من كل لون، يستمعون لرائع التواشيح ورائق الفن. .
كان المولد النبوي ذكرى تهز عواطف الشعراء، وتملا وجدانهم، وتسموا بنفوسهم وأرواحهم، فتجيش شاعريتهم بأقوى القصيد وبارع النشيد، ويهل (شوقي) على العالم الإسلامي ليهز عواطفه بقوله: (ولد الهدى فالكائنات ضياء.)
وأخيراً كان المولد النبوي صلة بين الحاكمين والمحكومين، فكان الشعب والحكومة يلتقيان في ساحة، ويتقابلان في أحيائه، ويتقاربان في ذلك على المحبة والألفة والتخلص من الأوضاع الرسمية والبرامج الأميرية ولهذا كان الشعب يشعر دائما بأنه قريب من نفوس الحاكمين. . .
كان هذا كله. . . وكان المولد النبوي يأتي كل عام بجديد في هذا كله أما اليوم فقد انقضى هذا كله، وأصبح الشعب بسائر طوائفه وطبقاته لا يحس بهذا المولد الأعلى وضع رسمي