ظننت أني ارتويت، سمعتني مرة أتمتم بيني وبين نفسي: ما لي ولهذا الشعر الذي يخنق الروح الحساسة المرهفة، ثم ينشرها أشلاء مشوهة بألفاظه وتعابيره. . إن الحياة والطبيعة ينبوع الشعر، وهو ما تعيه الروح قبل أن يعيه السمع والإدراك، وليس إلى هذا الشعر الذي يروي ظمأ الروح من سبيل؟. .)
(إذن ما هو مثلي الأعلى في الشعر؟ أأريد من الشعر أن أشم فيه روائح الحياة، وأسمع منه أنفاسها، وأتذوق به نكهاتها؟ أمأريد من الشعر أن يغيبني في هذه الحياة حتى لا أعود اشعر بكياني الذاتي؟ لا أدري ماذا أريد!!. .)
(إلى هذه الدرجة انتهى بي القنوط من فهم الشعر فهما منطقيا، فعجيب إذن أني ما أزال اكتب الشعر! واعجب من هذا كله إنني أحدثكم هنا عن كيف اكتب الشعر! والواقع أني إذا تركت جانبا الموازين المنطقية التي تزن بها قيم الشعر، والتي أراها لا تشفي غلة ولا تبلغ غاية لأن الإحساس بالجمال - كما أرى - مصدره العاطفة والذوق لا العقل والعلم، وأقول أني إذا تركت تلك الموازين جانبا، والتفت إلى الشعر الذي أكتبه، وجدتني فيه شاعر قصيدة لا شاعر بيت ومقطع، والقصيدة عندي فكرة معينة ينطوي تحت أجنحتها الثلاثة: الخيال، واللون، والنغم) هذا ما تحدث به الشاعر (عمر أبو ريشة) عن الشعر، وإنه في حديثه لشاعرأيضاًيفهم الشعر بعاطفته وذوقه، ويعترف بعجزه عن أن يجد في ذلك سبيلا للموازين المنطقية، ومقتضيات العقل العلم، وهذه الحقيقة هي التي عاناها رجل المنطق (سقراط) منذ الآلف السنين إذ قال: لقد وجدت جميع الناس يفهمون الشعر أكثر مما يفهمه الشعراء أنفسهم. .
والخلاف القائم بين الشعراء والنقاد يبتدئ من هنا، فالشعراء يقولون إن الشعر مجرد عاطفة وذوق وينتهون عند هذا، والنقاد يقولون إن الشعر منطق وفهم ويتشبثون بهذا، وذو آن لنا أن نفهم أن الشعر هو الجانبان معا. وعجيب من الشاعرأبيريشة أن يقول:(إن ينبوع الشعر هو الحياة والطبيعة)، ثم ينتهي بعد ذلك إلى إنكار الموازين المنطقية في فهم الشعر، وهل (الحياة والطبيعة) عاطفة وذوق فقط، أو هما عقل ومنطق فقط؟. . . كلا! ولكنهما كل ما في الإنسان. .