وفي ذلك الزمن - بل في جميع الأزمان منذ بناء الجامع الأزهر - كانت الصلة بين طلاب الأزهر وعلمائه وبين الحكومات المتوالية على أوثق ما تكون. لأن جامعاً كالجامع الأزهر لا ينبغي أن تنقطع الصلة بينه وبين حياة الجماعة الإسلامية، إذ ليس في الإسلام انقطاع عن الدنيا على النحو المعروف في غيره من الديانات
فكان لمذهب الشيعة شأنه في عصر الفاطميين، وكان لمذهب أبي حنيفة شأنه في عهد العثمانيين، وكان العاملون في الحياة العامة من أقطاب الأزهر اكثر وأكبر من المتنسكين المنقطعين عن شؤون تلك الحياة، وليس الشيخ المراغي - مثلاً - بمضارع في غناه للشيخ العباسي وهو من مشايخ الأزهر في الزمن الذي يحن إليه الأستاذ.
فلا علاقة لسراج الزيت لما كان عليه الأزهر وما صار إليه، وليس بصحيح أن شأن الجامع الأزهر في ما مضى كان أعظم من شأنه اليوم، ولا أن المقبلين على الحياة العامة على أقطابها في عصرنا هذا اكثر ممن كانوا يقبلون عليها في العهود الغابرة، بالقياس إلى عددهم في كل زمان.
والصحيح أن هيبة العالم الديني تتوقف على مكانة الدين في النفوس لا على ما يأكله العالم من خبز الجراية أو ينام عليه من أصناف الفراش.
وفي البلاد الأوربية لا ينام رؤساء الأديان على الحصير ولا يقرئون على السراج ولا ينقطعون عن الشؤون العامة، ولكن هتلر في جبروته كان يتقيهم ويداريهم ويتقبل منهم ما لم يكن يتقبله من كبار القادة والوزراء. وكذلك كان موسليني يفعل في دولته الفاشية، وكذلك فعل ساسة الروس الشيوعيين في العهد الأخير بعد أن جربوا مغاضبة الكنيسة ومحاسنتها، ثم اختاروا بين الخطتين.
وقد يتقي الرجل لمكانته في أمته وفي سائر الأمم وإن لم يكن من رجال الدين فإن تولستوي - كاتب الروس الأشهر - لم يكن ممن يصانعون القيصر ولا ممن يصانعون أحبار الكنيسة الروسية، وكان مع هذا يخاطب القيصر بكلام لا يباح لغيره، فيتقبله ويتغاضى عنه، لمكانة الرجل العالية بين قراء الأدب في القارة الأوربية، وفي العالم بأسره.
فرجل الدين يستطيع أن يكون للدين وللدنيا ولا يخسر مكانته ولا يحط من هيبته ووقاره،