إلى جانب البيت ونظر في النافذة وكان الثلج يصل إلى ركبتيه. رأى أمه على ضوء المصباح الخافت تعد المائدة للعشاء. وبدت أمه كما يعهدها تماما - طيبة القلب، هادئة، وعلى رأسها تلك القبعة الصغيرة نفسها وقد تغيرت عما كانت عليه عندما رآها لآخر مرة، إذ انحنى ظهرها قليلا. (ليتني كتبت لها قبل مجيء، ليتني كتبت بضعة أسطر كل يوم) كانت تضع الحليب وقطعا من الخبز الأسمر والملاعق والملح، ثم وقفت مكتفة الأيدي وساد عليها التفكير أو الحيرة؟!
شعر إيجور دريموف وهو يراقب والدته من النافذة أنه لا يستطيع أن يوجه إليها هذه الصدمة إذا عرفت أن هذا المخلوق المشوه هو ابنها! ووطد العزم على ألا يعرفها بنفسه، وقرع الباب. سألت الوالدة (من بالباب) فأجاب (أنا الملازم جرينوف أحد أبطال الاتحاد السوفيتي). ووجد أن خفقات قلبه قلت وزال عنه القلق عندما رأى والدته لم تميز صوته. حتى هو نفسه أخذ يلاحظ أن صوته قد تغير بعد تلك العمليات ومن جراء الأهوال، فقد أصبح صوته خشنا وحادا. وقالت الأم (ماذا جرى؟) فيجيب (أحمل رسالة إلى ماريا بوليكا دبوفنا من ابنها الملازم الأول دريموف) ولما سمعت ذلك ضمته بإحدى يديها وصافحته بالأخرى بحرارة قائلة (إذا ولدى ايجور مازال حيا؟ تفضل ادخل وحدثني عنه) جلس إيجور دريموف إلى المائدة حيث كان يجلس وهو صغير يوم كانت رجلاه لا تصلان الأرض وأمه تخاطبه - (قل يا أعز الناس لدى) - أخذ يحدثها عن ولدها أنه بخير وصحته جيدة وأنه سعيد. لكنه لم يذكر لها المعارك التي خاض غمارها بدبابته. وتقاطعه قائلة - (قل لي الحياة في الجبهة فظيعة رهيبة، أليس كذلك؟). (نعم أيتها الوالدة، إن الحرب كلها يظائع وويلات، ولكن الإنسان يألفها مع الأيام).
بعد قليل جاء والده وقد بدا أكبر مما كان وذقنه بيضاء وكأنما اعتراها غبار أو طحين مسح الثلج عن رجليه وخلع معطفه المصنوع من الفراء وصافح الضيف. في هاتين اليدين الكبيرتين يلمس الإنسان الأبوة اللطيفة! وإيجور دريموف يعرف هاتين اليدين فطالما لمسهما! جلس والده ليستمع إلى ذلك الجندي الذي غطى صدره بالأوسمة دون أن يسأله أي سؤال. وكلما طال الوقت على دريموف وأهله لم يميزه كلما ضاق صدره ويهم أن يقول (ميزوني تتعرفوا إلى، بعد أن أصبحت إنسانا غريب المنظر)، لكنه يتراجع.