مما يبعث السرور في نفسه، أنه يجلس على مائدة أبيه غير أنه في نفس الوقت كان كمن خاب أمله والآن حان وقت الطعام، فهل لديك ما نقدمه لضيفنا أيتها الأم؟) قال الأب هذا، وفتح جارورا في طرف الطاولة لا تزال فيه سنارات لصيد السمك في علبة كبريت فارغة تخص ولده. وفاحت رائحة مألوفة، هي رائحة البصل والخبز. وأخرج زجاجة خمر صغيرة بقى فيها ما يملأ قدحين صغيرين فقط. وبينما كانوا يأكلون، لاحظ دريموف أن أمه تحاول أن ترى كيف يمسك المعلقة ولما التقى نظرهما غضت طرفها وعلى وجهها مسحة من الحزن والشفقة، فابتسم. طرقوا مواضيع عديدة. المزورعات والحاصلات، الأمل بانتهاء الحرب في الصيف (ولماذا تعتقد يا سيد إيجورفتش بأن الحرب قد تنتهي في هذا الصيف؟).
فأجاب الأب (الشعب هائج، بعد هذه المصائب التي سببها لهم الألمان، لن يقف في وجههم شيء، وهنا قالت ماريا (لم تخبرنا متى يأتي ولدنا في أجازه بعد أن مضى ثلاث سنوات على غيابه عنا؟ ربما تغير شكله كثيرا الآن وربما كان له شاربان ويعيش كهؤلاء الذين يقطنون في جوار الموت. قد يكون صوته تغير؟)(ربما لا تعرفينه متى عاد)
وضعوا له فراشا في إحدى زوايا الغرفة، قريبا من الموقدة؛ في تلك البقعة التي يعرف كل حجر فيها وكل ثقب وعقدة في السقف، ورائحة الخبز، ورائحة البيت، الرائحة التي لا ينساها الإنسان حتى ساعة الموت. وهبت رياح شديدة في الخارج. وكان يسمع شخير والده من وراء الحاجز وكان سهلا عليه أن يتصور أمه مسهدة تصعد الزفرات والملازم مضطجعا على جانبه ورأسه على يده وقد أخذ يقول في نفسه: أحقا يا أماه لا تستطيعين أن تعرفيني؟ واستيقظ في الصباح على صوت طقطقة الحطب وهو يحترق في الموقدة، ورأى أمه منهمكة في عملها قرب النار وجوربيه قد غسلا وعلقا على الحبل وحذاءه نظف ومسح؛ وسألته والدته إذا كان يحب الجبنة مع البسكوت. وبعد أن جلس إلى المائدة قال (طلب إلى دريموف أن أبلغ سلامة إلى كاتيا ابنة أندري سيفانوفتش، فهل لا تزال تسكن قريبا منكم؟)(نعم وقد أنهت المدرسة في العام الماضي وهي تعلم الآن. سأدعوها لك) ثم خرجت تدعو كاتيا مانيشفا، وما كاد الملازم يلبس حذاءه حتى جاءت كاتيا تركض ووقفت أمامه، وها هي عيونها الواسعة اللامعة وحاجباها وقد ارتفعا في دهشة واستغراب، وزاد احمرار خدودها