عند أجدادنا البعيدين ثم ضمرت شيئاً فشيئاً لعدم استعمالها عندما طرأت عليهم ظروف جديدة جعلتهم يستغنون عنها، كذلك توجد في بعض الألفاظ حروف أثرية لا تنطق ولكنها تدل على الأصل الذي تسلسلت منه. مثل لفظة الفرنسية أي جسم فإن حرفي ولا ينطقان ولكنهما كانا يلفظان في الأصل اللاتيني وكذلك لفظة الفرنسية فإن ال لا تلفظ ولكنها كانت تلفظ في الأصل اللاتيني ويجد القارئ الكثير من هذه الأمثلة في كتب علم نشوء اللغات وتطورها.
وخلاصة القول إن لغات البشر ليست ثابتة ولم توجد كما هي منذ ظهور الإنسان على الأرض ولكنها في تطور مستمر ينشأ الحديث منها من القديم ويتسلسل منه بطريقة التطور التدريجي. وسأبين فيما يلي كيف نشأ النطق في بادئ الأمر كما ينشأ الآن في الأطفال وفي كثير من الطيور والحيوانات العليا.
النطق غير غريزي في الإنسان:
والحقيقة الثانية التي يجب بيانها هي أن النطق ليس غريزياً في البشر ولا هو مميز لهم عن سائر الحيوانات (الإنسان حيوان ناطق) كما كانوا يعتقدون فيما مضى قبل تقدم العلم.
فإذا فصلنا طفلا عن البشر منذ ولادته وعهدنا في تربيته إلى شخص يتولى ذلك بعيداً عن الناس دون أن يفوه أمامه بأي لفظ، فإن هذا الطفل ينشأ عديم النطق بتاتاً إلا ما يصدر منه طبيعياً أو فسيولوجياً من أصوات الألم والانفعالات النفسية كالتأوهات والهمهمة والتأفف مثلما تفعل الحيوانات كما سنبينه فيما بعد. وقد يلجأ إلى بعض إشارات للتعبير عن حاجاته كرفع يده إلى فمه إذا أراد الأكل وما إلى ذلك من الحركات الطبيعية الآلية. وإذا سلمناه إلى جماعة من الخرس فإنه لا يلبث حتى يقلدهم في إشاراتهم ليعبر بذلك عما يتطلبه من أمور الحياة فيكون في ذلك كالأخرس دون أن يعرف إلى النطق سبيلا.
ويؤيد هذه الحقيقة، أي أن النطق اللغوي ليس غريزياً في الإنسان بل هو وليد البيئة ونتيجة التقليد السماعي - كما سيأتي بيانه - ما هو معروف للجميع من أن الطفل الذي ينشأ في وسط قوم يتكلمون العربية مثلا يتكلم هذه اللغة دون غيرها حتى إذا كان آباؤه وأجداده من أبناء لغة أخرى، وكذلك الحال إذا نشأ طفل عربي محض في فرنسا بعيداً عن أهله منذ ولادته فإنه لا يتكلم إلا الفرنسية وهكذا. وإذن فالنطق ليس بغريزي.