وبودي كذلك أن أقيم معرضاً للقمم الإنسانية العالية العاملة المجاهدة القريبة من عرش الله بالنسك والفكر والعلم والعمل، حتى يراها الفاجرون القاعدون في السفح. . . بودي كل أولئك! ولكن ما مبلغ جهدي غير الآمال والأحلام السعيدة. . .
وإني لأتساءل: من أين أتى الإنسان بهذه الأنغام العالية المعقدة التي يخرجها من المزامير والصنوج والأوتار؟ إن كل أصوات الطبيعة ساذجة محدودة المقاطع ليس فيها إلا توقيع بسيط، فكيف أتى الإنسان بهذه الألحان التي تهيج أعصابه وتثير أشواقه نحو الجمال والحياة وتأخذ بأنفاسه وحواسه نحو المجهول؟ ولماذا تثير الألحان العظيمة قوة الإيمان وانفساح مدى الحياة في أعماق القلوب؟ أيكون ذلك ناشئا من أن روح هذا الإنسان ذات ذخيرة كامنة من أيام حياة في عالم ذي طرب دائم، فلما أخرج منه وأنسى ما فيه صار يبحث في ذهول ولهفة إلى إيجاد أصداء وصور منها في هذه الدار الفانية؟ فجعل ينبش في ذبذبات الأوتار والصنوج عن ذلك النغم الذي كان يعمر جو الجنة ويختلط بأنفاس رياحها ويهب على النفس مع هبوب نسماتها وخفوق خافقاتها؟
إني أشعر أن لتلك الأصداء الموسيقية تأثير الحياة أو الموت على الأعصاب. . . إن لها في الأعصاب وحياً كوحي النسمات وقطرات الندى ودفقات المزن ونضحات الأشعة وانعكاسات الألوان. . إنها أفواه نافخة من شذى الجنة أو لافحة من زفرات جنهم أحياناً. وإني أتلقاها بحاسة خاصة. والألفاظ هنا تضيق والشرح يترك للوجدان المشترك لدى كل حساس. إنها من أعجب ما أودع الله في طبيعة الأشياء!.
وإذا قيل إن الألفاظ والمعلومات (أشياء) أفادها الإنسان من محيطه وتسلسلت حتى تركبت في عقله وصارت هكذا كما نراها معقدة؛ فماذا يقال في النغمات؟ إنها لا تكون أكثر من فيض نفسي، ولا تكون نقلا عن (معلوم) في الطبيعة، وإنما هي تعبير خفي يفيض به همس المجهول في أعماق النفس. ولذلك قال القدماء عنها إنها فضل كلام نفسي ضاق عنه النطق. .
وإن الآلات الموسيقية تظل صامتة خرساء حتى تمسكها يد الإنسان فتنطقها بالأغاريد الغريبة التي في قلبه هو لا في قلبها هي. . .
والشخصية الموسيقية شخصية خفية ليس لها مدد تستعلن به إلا من داخلها، وإني لأسمع