يبتدع في أمر خلافة المسلمين مما يهون معه كل ما كان الناس نقموا على عثمان. ثم هو يخشى أن تكون السيدة سنداً وملجأ وقوة لهؤلاء الأربعة الأعلام الحجاز من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعاوية من الذين يتأتون للشر قبل وقوعه، ولا تحملهم قوتهم عليه أن يكابروه حتى يقضوا عليه، توفيراً لقواهم ورجالهم، وسياسة لهؤلاء الخصوم عسى أن يصبحوا في جملة أنصارهم فيزيدوا بهم قوتهم.
أراد معاوية أن يتلطف لما في قلب السيدة عليه، فقد قتل قائده - بأمره على ما أرجح - أخاها محمد بن أبي بكر بمصر شر قتله وأشدها نكالا: حرمه قبل قتله شربة ماء وكان يتهالك ظمأ ثم أدرج جثته في جيفة حمار فأحرقها، ولم ينج أخاها من القتل والإحراق شفاعة عائشة ولا إرسالها في أمره رسولا خاصاً من أشراف بني أمية؛ وكذلك أرسلت تشفع أيضا في حجر بن عدي وأصحابه فلم تفد شفاعتها شيئاً. ولا ريب أن في نفس السيدة على معاوية - لذلك - ما فيها، ولكنها كظمت غيظها وردت حنقها. ثم كان من مروان مع أخيها عبد الرحمن في أمر البيعة ليزيد ما رأيت آنفاً.
ومعاوية يخشى أن يفيض الإناء فيكون له من عائشة يوم مثل يوم الدار أو يوم الجمل، والحملة عليه اليوم مواتية ناجحة لاقحة: لهذا الخرق الذي أتاه في الإسلام بأخذ البيعة لابنه يزيد مع أن أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار وأولي الحل والعقد من رجال العلم متوافرون يشهدون ويسمعون: قد تخطى معاوية مشيختهم وأجلاءهم إلى شاب مستهتر سكير سيئ السيرة رقيق الدين فيما زعموا.
لهذا كله، عزم معاوية أن يروض أصعب الناس عليه يومئذ وأشدهم وأجدرهم إذا قال (هلم) أن يلبيه الناس من كل صوب ويثوروا تحت لوائه: عزم قبل كل شيء على زيارة عائشة والتذلل لها وموادتها، (فأقبل ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أم المؤمنين، فاستأذن، فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد، وكان عندها مولاها ذكوان، فلما استقر به المجلس ابتدرته عائشة تقول:
(يا معاوية، أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟).
كان التقريع عنيفاً مفاجئاً كما ترى، لكن داهية الأمويين - على ما يظهر - كان يتوقع مثله، فلم تصدمه المفاجأة، بل أجاب متملقاً متودداً: