أبعد من أن نتساوى حتى في هذا المكان حيث أنه يأتي إليه في عربة أو على ظهر جواد وآتي أنا راجلا) وذكر هذا الزميل مرة أخرى أنه تصادف أن حبس في حجرة في الكلية هو وتولستوي بعض الوقت عقابا لهما على تقصير، فرأى تولستوي في يده كتاب تاريخ، فقال إن التاريخ في رأيه أتفه موضوع، فما هو إلا مجموعة من الخرافات والتفاصيل العديمة الجدوى تتخللها طائفة من الأرقام وأسماء الأعلام؛ وتطرق الحديث إلى الشعر فتهكم تولستوي وسخر من الشعر؛ ثم تحدث عن التعليم الجامعي بوجه عام فسخر منه ما وسعته السخرية وسخر من تسمية الجامعة دير العلم إلى أن قال (ويحق لنا أن نتوقع أننا نترك هذا الدير رجلين نافعين مزودين بالمعرفة، لكن ماذا عسى أن نحمله معنا من الجامعة حقاً، وأي شيء نصلح له ولمن من الناس نكون ضرورين؟
هذا هو رأي زميله عنه، ولكن الذين عرفوا تولستوي وقد نسي تكلفه يجدونه شخصاً غير هذا، فهو ذكي الفؤاد محبب العشرة إلى رفقائه، طيب القلب، واسع الأفق متوثب الروح، صادق الحماسة لما يعتقد أنه حق أو صواب.
وهو في أثناء إجازته الصيفية في ياسنايا، ينسى ما كان منه في المدينة من تكلف يبعد به عن طبيعته، ولو أن أحداً من خلانه وآه هناك لأخذه العجب من أن يكون هذه هو الطالب الإرستقراطي الذي عرفه في الجامعة؛ فهو هنا في القرية يستحم في النهر ويجلس تحت شجرة يطالع قصة فرنسية، ويصيد السمك أو الطير ويمشي في الغابة ما وسعه المشي وقد أطلق نفسه على سجيتها، فلا أناقة في ملبس ولا تكلف في مشية أو جلسة أو حديث؛ وإنه لينام في شرفة ويأكل حيث يحب ويلبس ما يلائم لبسه الحر فحسب؛ حتى إذا عاد إلى المدينة رجع إلى تكلفه وأرستقراطيته.
ونجده يعد إسرافه في لهوه يثوب بعد منتصف العام الدراسي الثاني إلى شيء من الجد؛ ويجد لذة في دراسة القانون المقارن والقانون الجنائي وعقوبة الإعدام، ويقبل على القراءة إقبالا شديداً حتى ليتجاوز المقرر كثيراً في هذه الموضوعات، ويأنس منه أستاذه هذا الإقبال فيكلفه أن يقارن بين كتاب منتسكيو (روح القوانين) وبين قانون كاترين الثانية، فيجد الفتى في هذه المقارنة متعة عظيمة حتى ليميل إلى ترك الجامعة كي يستطيع أن يقرأ ما يحب أن يقرأ في غير قيد بما يتطلب المنهاج، فإنه إذا أقبل على قراءة شيء أحبه لا