واستعدادنا للنطق بوضوح وبسهولة أكثر من الأنواع الأخرى؛ إلى نمو يدينا، نتيجة اعتياد أجدادنا البعيدين الحياة على الأشجار وتسلقهم إياها وقبضهم على فروعها وغصونها ألوفاً من السنين. ولاشك في أن التجاءهم إلى الأشجار والغابات كان لأسباب طبيعية طرأت عليهم مصادفةً كأن يكون الغذاء الذي كانوا يعيشون عليه من قبل قد قل أو أنعدم فاضطروا إلى تسلق الأشجار ليقتاتوا بثمارها، أو أنهم احتموا بها هرباً من الوحوش الكاسرة أو الزواحف والحشرات السامة أو من كوارث الطبيعة كالغرق وغيره. وهكذا أدت تلك العوامل المحلية الطبيعية المحض إلى نتائج هائلة لم تكن منتظرة
ولا يفوتنا أن نقول كلمة عن مراكز النطق في مخ الإنسان فقد تطورت للقيام بوظيفتها هذه، إما بنموها نمواً كبيراً أكثر مما كانت عليه في الطيور والقرود العليا، وإما بتحول بعض مراكز أخرى في المخ عن وظائفها الأصلية إلى وظيفة النطق المركزية. وإن حدوث هذا التحول في أعضاء الحيوانات والنباتات وفي أنسجتها من وظيفة إلى أخرى لكي تلائم الكائنات الحية الظروف المستجدة والعوامل الطبيعية الطارئة أمر شائع ومعروف في العلوم البيولوجية كتحول الأقدام إلى أجنحة في الزواحف القديمة التي اضطرتها الأسباب المحلية الحادثة أن تقفز من شجرة إلى شجرة أو من شاطئ إلى شاطئ إلى أن اعتادت الطيران، وتحولت إلى صف الطيور كما تنطق بصحة ذلك أحافير الصور أو الحلقات المتوسطة التي عثروا عليها متحجرةً في طبقات الأرض التي تكونت في تلك الأعصر الجيولوجية القديمة، وعلى الأخص الأركيوبتيركس وهو شكل متوسط بين الزواحف والطيور. ومثل تحول قشر السمك إلى الأسنان في الزواحف وذوات الثدي التي منها الإنسان، وتحول قشر السمك أيضاً إلى القشر الضخم الذي يغطي أجسام التماسيح، وإلى الهيكل الكبير الجامد الذي تتكون منه ظهور السلاحف.
ولعل مراكز النطق هذه التي نحن بصددها نمت في النوع الإنساني أكثر من اللازم حتى صار حيواناً ثرثاراً كثير الكلام كما قلنا في مقالنا السابق.
ومن العوامل الرئيسية الهامة التي دعت الإنسان إلى النطق والكلام، الحياة الاجتماعية. فبعد أن كان أجدادنا البعيدون يعيشون فرادى لاحظوا أنه كلما صار فريق منهم جماعة يستطيعون القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً كالدفاع عن أنفسهم ضد