حوزتها بعد إمضاء هذه الهدنة، ولما كانت شروطها تحتم إجلاء الجنود والضباط والقواد الألمان فقد تقرر سفر الجنزال فون ساندرس ومن معه، وعليه تسلم القائد مصطفى كمال القيادة، وقد فهم أمرين: الأول أن الهدنة عقد لوقف القتال بين المتحاربين وأن الأراضي التي في حوزة الأتراك تبقى معهم لحين إمضاء معاهدة الصلح، والثاني: أن خط الحدود لوطنه هو الذي أثبته الأتراك بقوة السلاح في آخر معركة دارت مع الإنجليز والهنود في شمالي مدينة حلب عند انسحابهم منها وترتب على هذه المعركة إيقاف الزحف البريطاني على نقطة تبعد ثلاثين كيلو متراً من المدينة.
ويقرر في مذكراته ومخابرته الرسمية أن هذا الخط من صنع يديه، ولذلك تمسك به حتى النهاية في مفاوضاته مع الفرنسين، ولم يكتف بذلك بل عارض قبل ذلك الحكومة المركزية حينما طلب الإنجليز السماح لهم باستعمال خليج الإسكندرونة والميناء لتموين جيوشهم المحتلة لمدينة حلب، وتبادل مع رئيس الوزارة مكاتبات في منتهى الخطورة، وكانت هذه الفترة موجهة له في حياته المقبلة لأنه من تلك اللحظة بدأ يفكر في تأليف جيش من شراذم الوحدات التي تحت قيادته، حينما أقنعته الحوادث بأن إنقاذ البلاد يحتم مداومة القتال إلى النهاية.
فالمطالبة بتسليم ميناء الإسكندرونة كان معناه احتلال المنطقة، وقد أثار هذا الطلب مخاوف الفرنسيين لماسيرد بعد ذلك من تفاصيل في هذا البحث، وأثار قلق القائد التركي الذي فسر احتلال هذه المنطقة كرغبة في احتلال غيرها من الأراضي وأن هذا الطلب يهدم الشروط المتفق عليها. فلما طلبت منه الحكومة إجابة هذا الطلب أجابه بصراحة:
(أنا لا أتزحزح عن عقيدتي بوجوب تعيين وتحديد التضحية التي يمكن أن تبذلها الدولة بعد هزيمتها)، وكتب إلى رئيس الوزارة (إن الانقياد إلى البريطانيين في طلباتهم قبل إزالة ما في نصوص المعاهدة من إبهام وليس لا يبقى هناك وسيلة للوقوف أمام أطماعهم).
وكان الفرنسيون على علم بنيات البريطانيين وهم حلفاؤهم طول مدة الحرب، وكان الأتراك على علم بما يدور حولهم وما يمكن أن يسببه لهم التساهل والإغضاء عن حقوقهم، والآن وقد نشرت أغلب وثائق الحرب العظمى الأولى، أصبح من السهل تتبع المركز الخطير الذي لعبته منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة في استراتيجية الحرب بين السنوات