. . . وبمثل هذه الأفكار كان يعزي نفسه عما فاته من مباهج الحياة ومفاتنها، ومرت شهور وهو منهك في عمله وبقايا همومه وأفكاره القاتمة التي كان يطاردها فتغيب عنه حيناً ثم تعاوده في قسوة وعنف. . .
وفي صباح أحد الأيام كان جالساً كعادته إلى مكتبه يطالع صحف الصباح. . . وفجأة دخلت فتاة. . . وكان من عادته أن يطلب من أولئك الذين يقتحمون عليه خلوته أن ينتظروا بفناء المستشفى حتى يحين موعد العمل، ولكنه نظر إليها، وسكت. . . وبعد برهة سألها في صوت واع عما تطلب بينما كانت عيناه تلتهمانها التهاماً. . .!
وأسبلت جفونها، واصطبغ وجهها بلون الدم، وتلعثمت وهي تجيب. ودعاها برفق أن تقترب. . . وتخبره عن مرضها.
واقتربت، وأخذت تقص عليه أعراض مرضها بصوت ناعم حالم. . . بينما كان هو يتأملها في نشوة سعيدة كأنه يتأمل أثراً فنياً خالداً: كانت ترتدي ملاءة حريرية تحتها جلبات باهت اللون وفي إحدى يديها قارورة فارغة، وفي الأخرى تذكرة أمراض باطنية، وكان في مشيتها فتور ثمل كأن رأس قد حمل أكثر ما يسع من الأحلام، وفي عينيها ذلك الحنين الذائب الذي تشعه عيون الفتيات عندما تطرق قلوبهن تلك الاحساسات الحلوة الآسرة التي لا يدركن كنهها، ونظراتها كطيور تائهة تبحث عن وكرها في عيون أليف حنون يقتنص الأحلام الهائمة في السماء وبريقها في أذنيها بصوته الحلو الرقيق. . .!
وتناول منها التذكر وقرأ البيانات المدونة عليها فعرف أن اسمها (عزيزة) وعمرها سبعة عشر عاماً.
كانت تشكو ورماً بسيطاً في أصابعها وساقيها، وتناول يدها في كفه وأخذ يتأملها، واهتزت يده اهتزازاً خفيفاً وهو يضغط على أصابعها ليعرف طبية الورم، ثم فحصها فحصاً دقيقاً، وطلب منها أن تمتنع عن تناول بعض المأكولات، وزودها بنصائحه ثم أعطاها ما يلزمها من دواء وانصرفت.
وجلس يفكر وقد ملكت عليه نشوته بحسنها وودعتها كل حواسه. . . أين كان هذا الكنز مخفياً؟ لم لم تحضر قبل الآن؟ لقد جاءت ثم ذهبت كأنها الحلم السعيد في هدأة الليل،