بتفاصيلها ودقائقها وروحه الدائبة المتوثبة التي لا تعرف سأماً وحيويته الكفرية التي لا تقل عن حيويته البدنية.
أما فنه فكان قوامه الأصالة والصدق والسمو وتجنب ما لا عائدة منه في التعبير والتصوير، وكان يجمع فيه بين عاطفة الفنان ومهارة الصانع وتفطنه إلى كنه ما في يده؛ وكان يقبل على الكتابة في تحمس شديد وإخلاص بالغ، ثم يطيل النظر فيما يكتب فيمحو ويثبت ويحذف ويضيف حتى يستقر على وضع ترتاح نفسه إليه ويقرأ ما يكتبه على من يدخل عليه يتبين أثره في نفسه، كما كان ينفعل انفعالا شديداً إذ يتلو لنفسه ما كتب فتدمع عيناه ويهتز بدنه وترتعش يداه، ثم يشيع السرور في كيانه وتستقر الطمأنينة في وجدانه.
كتب في مذكراته في هذه السن المبكرة يقول في أوائل سنة ١٨٥١ (إن الخيال هو مرآة الطبيعة، مرآة نحملها في أنفسنا وفي هذه المرآة تصور الطبيعة، وأجمل الخيال هو أصفي المرايا وأصدقها وتلك هي التي نسميها العبقرية. . . إن العبقرية لا تخلق وإنما هي تعكس ما ترى) وقال في موضع آخر (إن الكتابة الأدبية ينبغي أن تكون أغنية منبعثة من صميم نفس الكاتب).
لم يكن كتابه (عهد الطفولة) ترجمة لحياته، ولم يكن كذلك عملا خيالياً بحتاً، وإنما كان وسطاً بين هذا وذاك، ولعله كان إلى وصف حياته وبيئته الأولى أقرب. قالت زوجته فيما بعد (كانت كل الصور فيه مشتقة من أعضاء أسرته، وكان الإسكندر إسلنيف هو صورة جدي لأمي).
ولم يعن تولستوي في كتابه هذا بالحوادث في ذاتها فليس فيه إلا الحياة العادية التي يحياها الناس كل يوم، وإنما عنى بإبراز المشاعر والأحاسيس التي تثيرها الحوادث فيما صور من الأشخاص فكان عمله أقرب إلى التحليل النفسي الذي سوف تمتاز به القصة الروسية عما قريب بوجه عام وفي فن دستويفسكي بوجه خاص.
ولقد وفق تولستوي توفيقاً كبيراً في تصوير الخلجات النفسية في كتابه هذا حتى ما يظن قارئه (إن لم يكن يعرف) أنه عمل مبتدئ، هذا إلى دقة اللمسة الفنية والبراعة في عرض الصور مع وضوحها وخلق المناسبات، واختيار ما يحتاج إليه السياق في غير استطراد ممل أو على حد تعبيره (استبعاد كل ما لا ضرورة له وكل ما هو سطحي أو ضعيف).