والشعراء إذا ما سمعوا حنينه هاجت ذكرياتهم فحنوا وأنوا. قال شوقي:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نشجي لواديك أم نأسى لوادينا؟
ماذا تقص علينا غير أن يداً ... قصت جناحك جالت في حواشينا
رمى بنا البين أبكا غير سامرنا ... أخا الغريب وظلا غير نادينا
كل رمته النوى: ريش الفراق لنا ... سهماً، وسل عليك البين سكينا
إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع ... من الجناحين عي لا يلبينا
فإن يك الجنس يا أبن الطلح فرقنا ... إن المصائب يجمعن المصابينا
لم تأل ماءك تحنانا ولا ظمأ ... ولا ادكاراً ولا شجواً أفانينا
تجر من فنن ساقاً إلى فنن ... وتسحب الذي ترتاد المؤاسينا
أساة جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنطس المداوينا؟
ثم يتفق الشاعران في أن رأى كل منهما برقاً يتلألأ حقيقة أو تخيلاً، فاهتاجه إلى مصر، فالبارودي رأى برقاً يلمع فيضيء الجبال والسهول، فبات ليلته أرقان يرقب النجوم الذي أجهدها طول السرى كأنه ملدوغ أو فريسة في مخالب الأسد، وصور لآلاء النجوم بالياقوت اللامع في درع. قال:
ومما شجاني بارق طار موهناً ... كما طار منبث الشرار من الزند
يمزق أستار الدجنة ضوؤه ... فينسلها ما بين غور إلى نجد
أرقت له، والشهب حيري كليلة ... من السير، والآفاق حالكة البرد
فبت كأني بين أنياب حية ... من الرقط، أو في برثني أسدورد
أقلب طرفي، والنجوم كأنها ... قتير من الياقوت يلمع في سرد
ولكن شوقي صور البرق بأن ناره تلمع مقتبسة من النار التي تشتعل في أضلعه، وصور المطر الذي يعقب البرق بأنه مستمد من غزير مدامعه، فهو مؤرق طوال الليالي يراقب النجوم، ويرعى عهد الحب لمصر، حتى لقد ذوى ونحل، فصار كزفرة حيري في الليل. وحمل هذا البرق وهذا المطر تحية إلى الوطن، وصور المطر بأنه يجوب ظلمات البحر يحرسه جبريل من الأذى والعدوان حتى يصل إلى سماء مصر الأبية التي لا تقبل عطاء الغير وإن كان مطراً مباركاً، وحتى رويت بقطراته حدائق الوادي ومروجه وحقوله وريفه