للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

افتتحها، من العريش إلى الفرما إلى أم دُنين (قرب حديقة الأزبكية)، إلى ساحة المعركة في عين شمس، إلى ميدان الوقعة الكبرى، التي كان فيها النصر عند حصن بابليون (قصر الشمع) عند جامع عمرو، ولعبدت هذا الطريق، طريق الفتح، وظللته بأشجار الغار، وكنّفته بالورد والفل، ولجعلت في كل قرية وكل بلدة مدرسة باسم عمرو، تعرف الناس عمرو، والدين الذي جاء به عمرو.

إن فتوح المسلمين أعجوبة التاريخ، ومعجزة الدهر، ولكن ليس فيها ما هو أعجب من فتح مصر، فقد حيّر من الوجهة الحربية العسكريين، وأدهش بنتائجه المؤرخين.

لقد كان جيش عمرو يوم صدم مصر، أربعة آلاف، وما أربعة آلاف في جنب مصر وملك مصر، ولو أطبق عليهم أهلها بأجسادهم لطحنوهم، ولو ضاربوهم بالحجارة لقتلوهم، ولو حصروهم من بعيد لأهلكوهم، ولكن أربعة آلاف فتحت مصر، فتحتها بعبقرية قائدها، فتحتها بخلائقها وبإيمانها. ومن كان معه الإيمان لا يقف له شيء.

ولقد فتح مصر من قبله فاتحون، العرب (الهكسوس) أبناء الجزيرة، والفرس، واليونان، والروم، فكان في مصر غالبون ومغلوبون، غرباء حاكمون، ومصريون محكومون، ولبث الفتح ما لبثت القوة، فلما زالت زال، وعادت البلاد لأهلها فلما فتحها عمرو، صارت لقومه إلى آخر الدهر.

ولقد دأب الروم وهم آخر من حكمها عاملين بالترغيب والترهيب، يستخدمون العطايا والمنايا، لحمل المصريين على مذهب في النصرانية غير مذهبهم فما استطاعوا. وهم جميعاً أهل دين واحد، واستطاع عمرو أن يدخلهم بطوعهم ورضاهم في الإسلام، فيكونوا هم أهله، وتكون بلدهم بلده، وهذه هي طريقة الفاتحين المسلمين، لم ينقلوا الإسلام إلى البلاد التي فتحوها، ولكن نقلوا أهلها إلى الإسلام: أراهم فضله، وأذاقهم عدله، أعطاهم الحرية في عباداتهم، وأعاد لهم بطريركهم بنيامين الذي طرده الروم، ورفع المظالم عنهم، ومنع بعضهم أن يستعبد بعضا، وحفر لهم الخليج في سنة واحدة، من النيل إلى البحر الأحمر، استعملهم فيه بالأجرة لا بالسخرة، وجعله لهم لا لغيرهم، فكان للخير والبركات، لا كقناة السويس التي هي في أرضنا وليست لنا - فكانت هذه الأعمال خطباً ومحاضرات في الدعوة إلى الإسلام، ما سمعها المصريون حتى انقلبوا جميعاً مسلمين، وكذلك تكون الدعوة:

<<  <  ج:
ص:  >  >>