للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بالأعمال لا بالأقوال.

لقد رأيت مرة رواية مسرحية في جمعية إسلامية مثّل فيها الممثل عمراً، رجلا قميئاً ثعلبياً محتالا يتدسس في القوم، ويسترق الأخبار، ويوقع الشر، ويتعمد الكذب، فعلمت أن هؤلاء الذين هداهم الله بعمرو، لا يعرفون من هو عمرو!

أولا فخبروني من قال لكم إن عمراً كان بهذه الخلائق؟ ما الذي غركم بتمثيله؟

أليس على الممثل أن (يندمج في دوره) ويفهمه ويستعير روح من يمثله؟ فهل تستطيعون أن تمثلوا أبا جهل في فضائل جاهليته، قبل أن تقدموا على تمثيل عمرو في عبقرية إسلامه؟

لقد كان عمرو شريفاً في الجاهلية والاسلام، وكان صادقاً صريحاً، وكان شاعراً فصيحاً وكان أبياً عزوفاً لا يرضى بالدنية من عمر، وهو من هو، ويرد عليه الكلمة بمثلها حين راسله في أمر خراج مصر، وكان فقيهاً في دينه، أسلم طائعاً مختاراً، فتوافقت على ورود شرعة الإسلام يومئذ عبقريتا عظيمين من عظماء الناس كلهم لا العرب وحدهم. وماردين من مردة القيادة والحروب، سيد القواد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، هداه إلى الإسلام نطق سديد، لم يدخله فيه طمع ولا طبع، ولم تدفعه إليه رغبة ولا رهبة، وكان صادقاً في إسلامه، قوياً في إيمانه، حتى ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم حَطْم رب من أرباب الباطل، فاختاره لهدم سواع، واقره على غمارة سرية فيها سادة الإسلام ومشايخه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، وجعله رسوله إلى ملك عمان، وأمينه على الصدقات فيه، وشهد له (أنه من صالحي قريش)، وقال فيه: (نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله) ونظر إليه عمر، فقال: (ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً) وقال قبيصة بن جابر: (صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أبين قرآناً، ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرة بعلانية منه) وكان عمر إذا رأى رجلا عيياً يتلجلج في كلامه يقول: (أشهد أن الخالق هذا وخالق عمرو ابن العاص واحد).

وكان مشهده يوم بلغه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى، مشهداً يلين القلوب الجامدة، وما يفجع ولد بابيه، أو محب بحبيبه، فتكون لوعته عليه، وحسرته لفقده، أشد من حسرة عمرو ولوعته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>