قالت: هنا يصفو لك التفكير (وفتحت له مكاناً في ركن المطبخ صغيراً) ولن يخطر ببال غرمائك إذا جاءوا أنك ثاو في هذا المكان ولا سيما إذا قلت لهم بأنني لم أبصر بك هذا المساء.
قال لها: أنت عظيمة يا سيدتي، وإنني أعم أنني لا أستحق منك تلك الرعاية ولا ذلك العطف، وما كان أسعدني لو كانت لي أم من نوعك، إذن لكنت غير ما أنا عليه الآن. . .
لم تقل السيدة أيدس شيئاً بل أغلقت الباب عليه فأضحى في ظلام دامس لا ينفذ إليه من نور المطبخ إلا شعاع واهن منحدر من أحد شقوق الباب، ومن هذا الشق ذاته كان بيتر يرى الوالدة تهيئ عشاء وحيدها (توم) الذي يأتي بعد ساعة من المزرعة التي يعمل فيها. وقد بكر (بيتر) يصور لنفسه جيئة صاحبة من عمله وما سيكون له من رأي في الذي إقترفه؛ ولكنه أيقن بأنه لن يلغى عطفاً حبته به أمه أبداً؛ وعلى الأخص فإن الصداقة التي تربطهما ليست من النوع الذي يسوغ مثل هذه الأفاعيل وإن كان كل منهما قد شق لنفسه في الحياة طريقاً يختلف عن الآخر. . .
أقام بيتر في زاويته بين الأكياس المكدسة ثم استلقى بينها، ثم أخذته الأفكار، ثم سطعت رائحة الطعام من المطبخ تسيل لعابه وتوقظ فيه الجوع، على أنه انبعث فيه أمل في أن يطعم بعض هذا الذي يشم عندما يؤوب (توم). ولن تنكر السيدة أيدس عليه هذا على وجه التأكيد بعد أن علمت مبلغ جوعه وعرفت بعد الشقة التي وطد العزم على قطعها. . .
وهنا أخذت الوقائع تتجلى له بصورة مؤلمة، وهنا أيضاً سمع وقع أقدام أذهلته وأعادته إلى نفسه الخائفة، فاحتقن وطغت ضربات قلبه إذ لابد أن يكون هؤلاء القادمون هم الحراس الموتورين وقد عرفوا مكمن الجاني فجاءوا يأخذونه من بيت صديقه وهم يعلمون أن هذه الصداقة تبرر العطف عليه. وقد أضاع اتزانه فانكمش في ركن ضيق من الزاوية انكماشاً، وأخذ يلوم نفسه على اللجوء إلى هذا الكوخ الذي يرد على بال المتعقبين قبل أي مكان غيره. ثم ارتجف وتحشرجت أنفاسه وازدحمت الزفرات فيصدره ولكن وقع الأقدام تعدى الكوخ ولم يقرع بابه، وجاء من بعدهم السكون الذي هو في أكثر الأحوال أبلغ عبارة من الضوضاء
أطلت السيدة أيدس من جانب الزاوية عليه وقالت إنهم جماعة القلعة وقد رأيتهم في طريقهم