للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإنه في أسره ليحزنه أن تمر به الليالي آمنة ساكنة لا يغير فيها ولا يجير:

تمر الليالي ليس للنفع موضع ... لدي ولا للمستقين جناب

ولا شد لي سرج على ظهر سابح ... ولا ضربت لي بالعراء قباب

ولا برقت لي في اللقاء قواطع ... ولا لمعت لي في الحروب حراب

وهكذا نجد ديوانه مليئاً بشعر الفخر والاعتزاز بالكرامة، وهذا كما قلنا طبيعة نشأها فيه اليتم المشعر بالنقص، الحافز إلى الكمال.

وقد جر أبو فراس البلاء على نفسه بسبب عبقريته الحربية: فالناس في كل زمان يحقدون على العباقرة، ويتمنون لهم كل فاقرة. وإن عشيرة أبي فراس وأقرانه ليعجبون! ما لهذا اليتيم يبز أبناء عمه ممن تربوا في رعاية آبائهم، وتلقوا عنهم دروس النزال والصيال، ثم ما له يخنق صيتهم بصيته، ويعفى على آثار سيوفهم بصليته، مع أنه - إلى يتمه - ليس أغناهم مالاً؟!

لابد إذن أن يأكل الحقد صدور هؤلاء الناس، وأن يفرحوا بكل سيئة تصيب أبا فراس.

كما جر أبو فراس على نفسه البلاء بسبب فخره وتعاليه، وغلوه في اعتداده بنفسه، فالناس إن حقدوا على العباقرة فهم أحرى بالحقد على المتحدثين عن أنفسهم، الفخر بأعمالهم وأحسابهم، ولا سيما إذا كان الفخر من مثل أبي فراس، هذا اليتيم الذي لم يسمع من أبيه كلمة مجد أو عزة، وأي الناس لا يحقد عليه، ولم يدع لغيره فضلاً، وكرر دعواه بأنه سيد عشيرته، وألمع شهاب في سماء أرومته.

وقد كان أسر أبي فراس محكاً ميز أصدقاءه الأوفياء من غيرهم فقد حسب الذين كانوا يدارونه أن لا فداء له، ولا غناء فيه، فكشفت هذه الشدة خفاياهم، وكذبت ألسنتهم ومراياهم.

وبعد:

فليس بدعاً من أبي فراس بعد ما قدمنا أن يشغل بالتحدث عن الصداقات والصحاب والحساد والمرائين، في كل مناسبة، ولا سيما مدة أسره. وقد قرر هو بعد التجربة أن الدنيا خلو من الصديق الوفي الذي يرضيك ما ظهر منه وما خفي.

وها هو ذا قد خبر أصحابه، فرأى أنهم كلهم عبيد المنفعة، وأنهم يضرون ولا ينفعون، حتى أصبح الخليل هو من يبتعد عنك حتى لا يضرك:

<<  <  ج:
ص:  >  >>