فتنبهت كأنها كانت في حلم وأفاقت منه على الحقيقة، وتصورت حياتها بغير هاني فلم تجد فيها شيئاً جميلاً ولا بهياً، وهل الحياة إلا الذكريات والآمال؟ وهل لها ذكرى حلوة إلا معه، وهل لها أمل إلا فيه؟ وإذا هي تركته وتزوجت أسعد فهل يترك حبه قلبها؟ هل يذهب من ذاكرتها، ألا تذكرها به صخرة الملتقى كلما نظرت إليها، والليل كلما اشتمل عليها، والقمر الذي كان يرعاهما، والسماء التي كانت تصغي كواكبها لنجواهما، والبحر الذي كانت تستمع أمواجه إلى أحاديثهما، والتلول والوهاد، والنسيم العليل؛ والثلج وأزهار الجبل.؟
والتفتت إليّ فجأة، وقالت:
- كلا، لست أحبه، أحب هاني. إن هاني هو حياتي، إن الفقر معه هو الغنى، والجوع معه هو الشبع، والسجن معه جنة الأرض.
- قلت: فلم إذن، زعمت أنك تحبين أسعد؟ لقد سمع هاني منك تلك الكلمة، وفتح الباب، وألقى بنفسه يائساً في خضم الليل. . .
- قالت: ماذا؟! أسمعني هاني؟!
وشخصت لحظة وجمد تفكيرها، فما يسيل، ووقف عند هذه النقطة فما يتحرك.
أهي تحب أسعد؟
فما هذه الكلمة التي نطق بها لسانها في غيبة قلبها، وزورها على نفسها تزويراً؟:
أهي تحب أسعد؟ وماذا بينه وبينها؟ ما يربطه بها؟ وهل تنسى هاني وعهود الطفولة؟ ألم ترضع هواه مع اللبن وليدة وتنشأ عليه؟ ألم تسلك معه طرق الحياة سهلها ووعرها؟ ألم تأكل معه على مائدة الحياة خيرها وشرها؟ أفتهدم سعادتها كلها بكلمة رعناء. . . أنفخة في الهواء تقتلع صرحاً ممرداً ثابت الأساس، رفيع الشرفات؟
ووثبت إلى الباب، ففتحته واقتحمت الظلام.
وكانت ليلة قارسة البرَد، عاصفة الريح، جنت فيها الطبيعة فهي تضرب بيديها، وتنثر البرد والثلج، وتلطم الوجوه والبنى. فخرجنا وراءها نناديها. . . وهي تعدو متحدرة، تثب على الصخور وتقفز إلى الأعماق، تنادي: هاني. هاني. فيضيع صوتها في عويل الرياح،