للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كتب الله له السلامة على يد رفيقه الأمين وحارسه المخلص الذي أبى عليه دينه وأبت مروءته أن يترك سيده في محنته. كان إدريس مؤمناً حقاً، طبعه الإسلام بطابعه، فنشأ متواضعاً جم التواضع، كبير النفس، عال الهمة كثير الوفاء، شديد الإخلاص أحرص على تعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من حرصه على حياته، فكان يرى أنه لا يليق بالمسلم أن يلوث سمعة الإسلام بالجبن أو الخيانة، أو القعود عن نصرة الضعيف. . . وكان يرد على ثناء سيده عليه بعد تلك الليلة بقوله:

- إنني يا سيدي لم أقم إلا بما يجب عليّ كإنسان مسلم يعلم أن الله يجزي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، وأنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

كانت تلك الفرصة هي التي ولدت في التاجر الثقة بإدريس، وأعلت منزلته في قلبه، حتى أصبح لا يعمل إلا بمشورته، ولا يصدر إلا عن رأيه، وكان الرجل من كبار التجار في الأندلس، له القصور الشامخة، والمزارع الواسعة، والحدائق الغناء، والبساتين الزهراء، يحوطه جيش من الخدم والحشم، ويتمتع بتقدير الناس ومحبتهم

ولما استقر المقام بالتاجر في بلده بين أهله، أقام حفلاً كبيراً، شكراً لله على سلامته، ودعا إليه سراة القوم وعِلْيتهم، وقدم لهم إدريس منقذ حياته، وامتدح لهم شجاعته ونجدته، وقص عليهم قصته، وقال في تمام حديثه: (فلولا إدريس لكنت في عداد الأموات منذ أمد بعيد؛ فأنا مدين له بحياتي!).

جعل كلام الرجل لإدريس مكاناً ممتازاً في نفوس الناس وقلوبهم، فكانوا يجلونه ويحترمونه، ويقدرون فيه أخلاقه الإسلامية الكريمة، التي فتحت له أبواب السعادة في مستقبل حياته، فلقب بشيخ الأندلس، وصار أغنى أغنيائها.

وفي مكان منعزل عن المدينة وضوضائها، كانت الساحة الشعبية التي أعدتها حكومة الأندلس الإسلامية، لإقامة المهرجانات الرياضية والمباريات في الرماية والفروسية، وكانت الساحة واسعة، اكتست أرضها بحشيش أخضر جميل، وقامت في جوانبها أبنية فخمة في شكل دائري، واجهتها مكشوفة إلى الملعب ليجلس فيها المتفرجون أيام المباريات، وكانت الساحة مفتحة الأبواب لجميع المواطنين من غير تمييز بينهم في الجنس أو الدين؛ فقد كان للأندلسيين ولع شديد بالرياضة على اختلافها، فكان البرابرة والعرب واليهود منهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>