غريباً في بلاده، يأكله كل طارئ، ويدعه جوعان عريان منبوذاً في بلاده وتحت سمائه.
وعبرة أخرى هي أن التساهل مخالفة العواقب شر كله. فقد رأى بعض ساستنا أنهم إنما يفعلون خيراً كثيراً لبلادهم إذا تساهلوا لبريطانيا في بعض الحقوق، ظناً منهم أن ينالوا من وراء ذلك حقوقاً أخرى هي أولى بالتقديم والنظر والاهتمام، فكانت العاقبة أن دخلنا مع بريطانيا في الدائرة المغلقة التي يسمونها (المفاوضة). فإذا نحن نضيع حقوقنا كلها جملة واحدة، وإذا بريطانيا تريد أن تحتج علينا اليوم بما تساهل به أولئك الساسة في حقوق بلادهم، فتأكل علينا حقنا كله حين تريد أن تمنعنا من أعظم الحقوق البشرية وهي الحرية. وتريد أن يقطع قلب مصر بقطع السودان عنها، لأن قوماً من الساسة غفلوا زمناً طويلاً عن رفض كل اتفاق لا يشمل السودان كما شمل الجزء الشمالي من وادي النيل وهو مصر، فارتضوا أن يعلقوا مسألة السودان ويأخذوا من عبث بريطانيا ما زورته لهم وخدعتهم به ثم هي اليوم تمن علينا أنها أعطتنا تلك الفضلات التي لا يعبأ بها إلا الذليل الخانع المقيم على الضيم.
وعبرة ثالثة هي أن زعماء الثورة على العدو ينبغي أن يظلوا أبداً زعماء الثورة، لا رؤساء حكومات تحت ظل حماية مقنعة تسمى استقلالاً كذباً وتضليلاً في العرف الدولي. فكان ينبغي لهؤلاء الزعماء أن يظلوا بمنجاة من إثم الحكم تحت ظل الاستعباد البغيض وأن يكونوا دائماً أيقاظاً لا تنيمهم شهوة الحكم، وبذلك يضمنون لبلادهم أن تظل يداً واحدة على العدو، وأن تظل يقظة متنبهة لا يخدعها لفظ (الاستقلال) عن الخبث الذي انطوى عليه وأن يصارحوا الشعب دائماً بالحقيقة التي لا تستر، وهي أنه صار (مستقلاً) في العرف الدولي، وأن يكشفوا له ما استطاعوا عن خدع الاستعمار الذي يعبث بهم. وإلا فأي خديعة كانت أكبر على هذا الشعب من خديعة الناشئة في المدارس والبيوت، وهم يقرئون ويسمعون أن مصر دولة مستقلة وهي اليوم تقف لتقول للناس على رؤساء الأشهاد في مجلس الأمن أن الاستقلال الذي ضمنته بريطانيا!! كان استقلالاً مزيفاً، لأن الجنود البريطانية كانت لا تزال تحتل بلادنا ولأن السفير البريطاني كان ينصب الحكومات المصرية ويقيلها كما يشاء وتشاء دولته المستعمرة لبلادنا. لقد ظن أولئك الرجال أن هذه سياسة وكياسة وحسن تدبير، فإذا هي غفلة وحماقة وسوء تقدير. ولولا يقظة هذا الشعب