الأبي الكريم، لما استيقظ هؤلاء الزعماء البتة، ولمضوا إلى الغاية في التنازع على الحكم وشهوات الحكم وفتن الحكم، فالشعب هو الذي انتهى بنا إلى مجلس الأمن لا الزعماء ولا أولئك الساسة.
وعبرة رابعة هي أنه ينبغي لزعماء الثورة أن لا يقبلوا البتة مفاوضة الغاصب على حق من حقوق البلاد، فإن حقوق الحرية مترابطة لا ينفك بعضها من بعض، ففيم يفاوض الإنسان إنساناً قد سلبه حقوقه؟ إنها كلمة واحدة:(هات حقي)، ولا تدع المطالبة بالحق كاملاً حتى يتركه لك أو تموت دونه. وما دام الغاصب لا يستطيع أن يفني شعباً بأسره، فالشعب هو الظافر المنصور في النهاية، مهما لقي من عذاب وتنكيل واضطهاد وبؤس. ولو كان هذا من فعل مصر والسودان منذ سنة ١٨٨٢ لما انقضت سنوات بعد سنة ١٩١٩ سنة الثورة، حتى كان الغاصب قد أسلم إلينا حقوقنا كاملاً بلا معاهدة ولا مفاوضة. ولكن زعماء الثورة رموا بأنفسهم في المفاوضات، فكانت العاقبة أننا بقينا نفاوض بريطانيا سبعة عشر عاماً، فإذا هي تعطينا معاهدة سنة ١٩٣٦ تحت الضغط والقهر والتهديد، وإذا هذه المعاهدة احتلال تام، ولكنه سمي بالعرف الدولي (استقلالاً).
وعبرة خامسة هي أن الذين يدخلون المفاوضات ويعقدون المعاهدات تحت ظلال السيوف، وبضرورة التهديد والقهر، كان ينبغي عليهم أن يكونوا ناساً غير زعماء الثورة، أما زعماء الثورة حين يفعلون ذلك، فهم بين رجلين: إما مدلس كذاب يخدع الناس ويقول للناس هذه معاهدة الشرف والاستقلال، وهي ليست سوى معاهدة للاحتلال الدائم، وإما رجل ضعيف الرأي منخوب الفؤاد يوقع على المعاهدة ثم لا يجرؤ أن يقول لشعبه إن هذا الذي وقعت عليه احتلال لبلادكم فأحذروه وارفضوه وثوروا في وجهي ووجه من رضيه معي. وهذا الثاني لن يستطيع أن يقول ذلك، فهو مضطر إذن إلى التلفف والتلفيق والسكوت وادعاء الشجاعة حين يقول. (هذه معاهدة لولا القهر والتهديد لما وقعتها)، ويقولها في غمرة تلك الأمواج الهائلة من الخداع والأكاذيب التي اصطلح على نشرها بين الشعب الغافل المنكوب زعماء من أنفسنا، وساسة من أخبث ساسة بريطانيا في هذا القرن. يا له من عبث أيها الساسة المخادعون! وتبتم أيديكم يوم وقعتم وثيقة أراد بها الغاصب إذلالكم وإذلال بلادكم فقبلتموها، وهو اليوم مصر على أخذ بلادكم بما جنت أيديكم من شرور تلك المعاهدة