جاءها وكيل مالك الأرض وأبلغها مقتل زوجها إثر شجار نشب بين بعض الفلاحين وأن القتلى دفنوا حيث وجدوا وأن لا حاجة لإبلاغ الشرطة مادام عدد القتلى من الطرفين متساوياً فلماذا تحشر الحكومة في الأمر فتزعج وتنزعج وإن عليها أن تخلي الكوخ فوراُ لمن سيحل فيه محلها. قال الوكيل كلمته هادئاً وانصرف مطمئناً وكأنه ما أتى ليخرب بيتاً بل ليوجه تعليماته اليومية حول سقاية أو زرع. لم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف أو تقليد يرغم مالك الأرض والأرواح على أن يحول جزءاً يسيراً من ماله الوفير عن سبل صرفه - أو كنزه - الاعتيادية ليعوض به على أسرة بائسة فقد معيلها، ولم يكن هناك قانون أو نظام أو عرف تقليدي يرغم الفلاحين على أن يمدوا يد المساعدة إلى أسرة كهذه ولاسيما أن ما يملكونه لا يكاد يسد الحد الأدنى من حاجاتهم البسيطة. ولكن المسألة ليس مسألة عرف أو نظام بل هي مسألة شعور الإنسان نحو أخيه الإنسان وهو شعور تسمو به نفوس الفقراء غالباً ولا تستطيع أن تسمو به النفوس الفقيرة قط.
وهكذا غادرت الكوخ مع أطفالها مزودة بما جمعه لها الفلاحون زملاء زوجها الراحل من زاد حقير ومال قليل وتوجهت نحو المدينة البعيدة حيث قيل لها أنها قد تجد عملا تتعيش به وتنفق منه على أولادها. كانت الرحلة طويلة وشاقة أدمت على خشونتهما قدميها. ولكن عطف عليها مرة سائق يقود سيارة للشحن رق لحالها وأطفالها فأركبهم جميعاً وجنبهم تعب المرحلة الأخيرة. ودخلت المدينة على ظهر تلك السيارة فلم تحس بأنها دخلتها لأن الراحة النسبية خدرت أعصابها المرهقة فنامت ملء جفونها ولم تستيقظ إلى على صوت السائق يدعوها إلى النزول فنزلت وسحبت أطفالها لا تدري إلى أين.
مرت في رحلتها بمزارع غنية وحدائق غناء وقصور متكئة على تلك المزارع والحدائق ومرت بها على الطريق سيارات فخمة بحمولتها الثمينة من رجال أو نساء استدارت وجوههم وتكورت بطونهم، وهنا في المدينة سارت لأول مرة بين الأبنية الجميلة وفي الشوارع العريضة المستقيمة وعلى بعد خطوات من معالمها البارزة وعلى مسمع ومرأى من شبابها المتحمسين وقادتها المصلحين ولكنها لم تكد ترى شيئاً أو أحداً لأن انتقالها هذا إلى المدينة لم يكن ليختلف عن تنقلاتها السابقة مذ غادرت بيت أبيها فهي تسير منذ الأزل باحثة عن رزق ومأوى وهي عالمة بأن رزقها الكفاف أو أقل وأن مأواها خرابة أو كوخ -