أما تلك الدور والأبنية التي مرت بها فليست منها في شيء ولم تخلق لها ولا صلة لها بأهلها فدنياها غير دنياهم وقومها غير قومهم. كانت هذه الحقائق مستقرة في أعماقها دون أن تتكلف عناء التفكير فيها ولذلك لم تكن لتشعر نحو هذه المجموعة الأجنبية من الناس بكره أو حسد فلو دعاها داع إلى الثورة عليها لما لبث الدعوة ولاتهمت الداعي في عقله.
وكما عاشت في غفلة عن القصور وسكانها وعن المدينة وأهلها كذلك أغفلها هؤلاء جميعاً وتابعوا حياتهم اليومية وهم قانعون بأنهم إنما يستوفون حقهم المشروع لأنهم الفئة التي اختارها الله وخصها من دون غيرها بالنعم والميزات. أما تلك الجموع الفقيرة التي تتدافع بالمناكب لتطعم من فتات موائدهم الزاخرة فهي في نظرهم سوائم لا تستحق غير الفتات. إن هؤلاء السادة الأكارم أشبه بالدول المعظمة في هيئة الأمم المتحدة. في أيديهم الحل والعقد وفي جيوبهم مفاتيح الثروة المغلقة أبوابها في وجه غيرهم، وكل ما يجري بدفع منهم ولتأمين مصالحهم هم، وحدهم لا شريك لهم ثم إن هؤلاء السادة الأكارم يتمتعون بما تتمتع به تلك الدول المعظمة من حق (الفيتو) وحق الاحتفاظ بسر القنبلة الذرية والدولار!
ولكن، أنى لمثلها أن يعي شيئاً من ذلك؟. . .
لاقت في المدينة إعراضاً لأن الناس لا يستخدمون أماً مثقلة بعدد من الأطفال ولاسيما إذا كانت ريفية جاهلة قذرة. كانت تطوف في النهار على البيوت طوافاً مضطرباً فتعرض خدماتها وتتلقى الرفض مصبوباً في قوالب مختلفة بعضها جميل وجلها بشع مخيف. وكانت تجود عليها بعض البيوت بشيء من الطعام أو اللباس أو بدراهم معدودات أما الليل فكانت تختار له جانباً من طريق تأوي إليه مع أطفالها فإذا ما ناموا ظلت هي ساهرة تحرسهم من المارة والهوام حتى إذا تقدم الليل ونقص عدد العابرين وغلبها التعب والنعاس استلقت على الأرض إلى جانبهم وأحاطتهم بذراعيها ثم استسلمت مرغمة للنوم. ولحظت بعد حين أن بعض المارة يتصدقون عليها بدراهم يلقونها بين يديها دون أن تسألهم ذلك لقد أدهشها الأمر في البداية، ولكنها ما لبثت أن قنعت بأن الاستجداء هو العمل الوحيد المفتوح بابه لها فامتهنته وراحت تطلب الصدقة نهاراً من سكان البيوت وليلا من المارين. وفزعت من الشتاء حين دهمها بمطره وبرده فراحت توزع نهارها بين السؤال وبين البحث عن مكان