ولكن الرطوبة الشديدة والبرد القارس لا يرحمان الفقراء الذين لا يعرفون دفء المسكن والملبس والمأكل وليس في مقدورهم الاستعانة بطبيب أو اللجوء إلى مستشفى ففقدت بالبرد أحد أطفالها ووارته التراب في طرف المدينة دون أن تعلم بأن الدين فرض على الناس عند الوفاة طقوساً وصلوات.
الدين؟ وما الذي تعرفه هي عن الدين سوى أنه لفظ يفيدها في القسم أحياناً هو وعدد من الألفاظ الأخرى كاسم الله والنبي وبعض الأئمة والأولياء حفظتها بالسماع دون أن تعلم أن لهم في الكون وظيفة تنفع في غير الإيمان والدعوات. كان هذا كل ما تعرفه عن الدين، هذا وما سمعته من أبيها وزوجها عن زيارة يقوم بها الناس إلى بعض الأماكن المقدسة حيث يتعبدون ويدعون الله فيستجيب لدعواتهم. كانت تود أن تقوم بمثل هذه الزيارات لعل الله يمن عليها بما يساعدها على تربية أطفالها ولكن أنى لها ذلك وهي ما تزال تذكر رحلتها الأخيرة إلى المدينة بخوف ولا تحس بشجاعة كافية تدفعها إلى المخاطرة برحلة جديدة نحو المجهول.
وانقضى الشتاء فخفت آلامها بعد أن كاد البرد في شدته يقضي عليها وبعد أن كادت تعتقد أن الموت أدركها ذات ليلة فبكت وضمت إليها من تبقى من أولادها وأسلمت نفسها إلى غيبوبة طويلة أفاقت منها صحيحة قوية وأطفالها من حولها ينتظرون قيامها وقد أضناهم الجوع. ولم تدر مدى الزمن الذي انقضى وهي في حالة الإغماء ولكنها تعلم أنها بقيت لأولادها وتغلبت على الشتاء. وأتى الربيع فظنت أن قد زالت الأخطار ولكن يد الموت امتدت من جديد وتناولت من بين يديها ولداً آخر كان يهذي في ساعاته الأخيرة وكانت حرارة رأسه كحرارة الجمر. . .
وأقبل الصيف فانتعشت قليلا وراحت تغسل أولادها وملابسهم في النهر دون أن تخشى عواقب البرد واستمرت تعيش عيشتها البسيطة قانعة بالقليل من الذي تجود به أكف المحسنين فإذا ما هل شهر رمضان لم يكن له عندها سوى معنى واحد وهو أن عدد المتصدقين قد يزداد في الشهر المبارك ولعها تستطيع بهذه الزيادة أن تبتاع لأولادها مزيداً من طعام أو تحصل لهم على لباس يحل محل الأطمار أو الخرق التي لا تكاد تستر