ومع ذلك أهين كغيره في الثورة العرابية، ونفي نفياً قاسياً، فجرح هذا العقاب عزته وكبرياءه، فسب دهره الجائر.
وهل رأيت عند أبي فراس أسباباً للنقمة على دهره غير هذه الأسباب التي ذكرتها للبارودي أخيراً، وسيخيَّل إليك لقوة الشبه بين الأسباب أنني سأعيد عليك شعر أبي فراس تحت اسم البارودي:
فكما كان الدهر حية رقطاء في شعر أبي فراس، يكون في رأي البارودي ثعباناً لادغاً، أو ذئباً مراوغاً، وليس الدهر ملهاة أو ملعبة، ولكنه أزمات وفجائع، تبخل بالسعادة على المكدود، وتجود على الوادعين الرقود:
ألا إنما هذي الليالي عقارب ... تدب وهذا الدهر ذئب مراوغ
فلا تحسبن الدهر لعبة هازل ... فما هو إلا صرفه والفجائع
ألا إنما الأيام تجري بحكمها ... فيحرم ذو كد ويرزق وادع
ولا عهد للدهر، يفتك بالآمن، ويخرس القوالة اللسن:
إن الحياة وإن طالت إلى أمد ... والدهر قُرحانُ لا يبقى ولا يذر
لا يأمن الصامت المعصوم صولته ... ولا يدوم عليه الناطق البَذِر
ولما كان الدهر في رأي البارودي مقياس القوة والتأثير شبَّه الشعر به في رفع الوضعاء وإسقاط الشرفاء، وتراه يكرر الدهر أربع مرات في كل هذه الأبيات الأربعة:
للشعر في الدهر حكم لا يغيره ... ما بالحوادث من نقص وتغيير
يسمو بقوم ويهوي آخرون به ... كالدهر يجري بميسور ومعسور
صحائف لم تزل تتلى بألسنة ... للدهر في كل ناد منه مهجور
لولا أبو الطيب المأثور منطقه ... ما سار في الدهر يوماً ذكر كافور
وكأنما يريد البارودي بذلك أن يعلي الشعر على الدهر، وأن يغيط الدهر بغيض بما ينسبه للشعر وحده من فضل وفخر
وكما يدعى أبو فراس ثباته أمام صدمات الدهر، وأن عزيمته لا يمسها وهن أو كسر، وكذلك لا يفوت البارودي هذا المعنى فيقول:
وإني أمرؤ تأبى لي الضيم صولة ... مواقعها في كل معترك حمر