أبى على الحدثان لا يستفزني ... عظيم ولا يأوى إلى ساحتي ذعر
إذا صلت صال الموت من وكراته ... وإن قلت أرخى من أعنته الشعر
ويقول وهو أضعف حماسة من سابقه:
فإن تكن الأيام رنقن مشربي ... وثلمن حدى بالخطوب الطوارق
فما غيرتني محنة عن خليقتي ... ولا حولتني خدعة عن طرائقي
ولكنني باق على ما يسرني ... ويغضب أعدائي ويرضى أصادقي
فحسرة بعدي عن حبيب مصادق ... كفرحة بعدي عن عدو مماذق
فتلك بهذي والنجاة غنيمة ... من الناس والدنيا مكيدة حاذق
وكما تجلد أبو فراس أمام ريب الدهر، ثم عاد فأبدى تخاذله وضعفه يعود البارودي كذلك بعد تشجعه وتأبيه، فيستسلم للدهر ويقرر أنه اضطر إلى الصبر، ولولا اللوم لهلج وجزع:
صبرت على ريب الدهر ... ولولا المعاذر لم أصبر
ويعزو إخفاقه إلى عجزه وتخاذل طاقته لا إلى جهالته:
فلا تحسبني جهلت الصواب (م) ... ولكن هممت فلم أقدر
ويعجب أن يرد الهرمان عوادي الدهر وفي هذا ما يشعر بتهيب البارودي له وحذره من نوازله:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر ... لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردَّا صولة الدهر عنهما ... ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
وكما لم ينس أبو فراس الدهر وأحداثه وهو حظٍ بلقاء حبيبته مشغول بمحادثتها فيقول:
فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا ... فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر
وقبلت أمري لا أرى لي راحة ... إذا البين أنساني ألح بي الهجر
فعدت إلى حكم الزمان وحكمها ... لها الذنب لا تجزى به ولي العذر
فكما ترى في هذه الأبيات أن أبا فراس أسلم نفسه لكم زمانه وحبيبته، واستكان لسطوتها وسطوته - ترى أن البارودي أيضاً خفض جناحيه لعيني حبيبته وخضع لجمالها كما خضع للدهر وقوته، حيث يقول:
لها لفتة الخشف الأغن ونظرة ... تقصر عن أمثالها الفتكة البكر