للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهزالها. . . ولكن وجه المريض يعترف دائماً للطبيب الماهر بكل الأسرار التي يجتهد صاحبه في إخفائها، واستطاع الطبيب الذي عاد سميرة أن يفهم أن سر علتها لا يكمن في جسرها: إن أعصابها المنهوكة المستنزفة، وحسرتها الذائبة في عينيها، وأحزانها الراقدة في أطواء صوتها تنطق بأنها تضم ضلوعها على صراع عنيف أو فاجعة دامية لا تريد أن تبوح بها فلم يسعه إلا أن ينصحها بالراحة التامة والتروح إلى مكان آخر لتبديل الهواء، ووصف لها دواء للأعصاب.

وما أسهل إسداء النصح!! الراحة التامة؟؟ لقد بكت عندما سمعت هذه الكلمة، إنها في حاجة إلى الراحة حقا، ولكن أنى لها أن تنالها؟ إن الزمن حكم عليها بالشقاء وأمعن في إذلالها كأن بينه وبينها ثأراً لا ينقضي - والآن يأتي رجل غريب ويخبرها أن جسدها سليم ويفهمها في لباقة أنه يدرك أن هناك سراً يهز أعصابها هذه الهزات العنيفة ثم ينصحها بالراحة!!

وعلى فراش الأوجاع انفسح أمامها المجال للتأمل والتفكير، وطافت برأسها العاني ذكرى (المنبوذ) وكلمات الإعجاب وعاصفة التصفيق. . . وعلت وجهها ابتسامة شاحبة وأغمضت عينيها وراحت تتذكر. . .

أحقاً كانت تمثل دورا على خشبة المسرح؟ تتكلف العواطف وتتصنع البكاء، وتفتعل الحزن والألم والتنهدات. .؟ لقد فعلت ذلك مئات المرات، أما في تلك الليلة التي لن تنساها فقد كانت تعرض على الجمهور مأساتها الدامية وذكرياتها الحزينة وكانت في شبه غيوبة وهي على خشبة المسرح فقد استولت أحزانها وذكرياتها التي ظلت سنين حبيسة لا ترى النور على مشاعرها ولسانها وتدفقت الكلمات من فمها في ثورة وعنف حاملة في تضاعيفها لهباً وشواظا من أنون آلامها. . . ولم تعد سميرة ممثلة تتحكم في دورها بل امرأة شقية تتحكم فيها ثورة آلامها وتنطقها دون وعي بما يعتلج في صدرها ورأت بعينيها ذهول المشاهدين وسمعت بأذنيها الأنات والآهات وبكاء الباكيات فزاد تأثرها وانفعالها وتمثلت لها حياتها قاتمة الألوان دامية الجراح وأحست نحو نفسها بالشفقة والرثاء. . . فكان ما كان آه لو كانت تعرف من يحس نحوها ببعض ما تحسه هي نحو نفسها من شفقة ورثاء لما تألمت كل هذه الآلام، أو لو يقع لها في مستقبل أيامها ما وقع لتلك الفتاة التي مثلت دورها على

<<  <  ج:
ص:  >  >>