والغرور فتندفع في طريق الآثام والجرائم التي تحجب عن النفس حقيقتها المستعمرة فيها، فتجهل أن الكون تجمع أجزاءه وحدة تامة يتجلى فيها الله ولا تملك أن تحقق كمالها بالاتحاد باللانهاية، وتفشل في إحراز حريتها الروحية، تحرم من الشعور بالحب الذي يفيض بالغبطة والسرور. وإذا أرادت تلك النفس الآثمة أن تحقق كمالها، يجب أن تخرج ذاتها في حدود فرديتها العتيقة إلى نطاق اللانهاية الفسيح، وتسعى لأن تتحرر من أسر المظهر، وتكشف عن زيف الباطل؛ بأن تفد نفسها لمعرفة حقيقة وحدة الكون عن طريق معرفة قوانين الطبيعة العلمية، وعن طريق إنكار الذات وفعل الخير وتحذير النفس من الشهوات الدنيئة والرغبات المنحطة وعن طريق ملاشاة قرويتها في اللانهاية؛ فيجري فيها ذلك الحب الذي يجعلها تدرك حقيقة الجوهر الكامن فيها، وتعلم أنها في وحدة تامة مع الله والطبيعة، وتفوز آخر الأمر بكمالها.
يفهم مما تقدم أن معرفة حقيقة اتحاد الكائنات الشامل هو السبيل الوحيد لكمال النفس الإنسانية، التي لا يمكن أن تدرك هذه الحقيقة الكبرى إدراكا عميقاً صادقاً، إلا إذا تكشف لها أولا ما تحتوي عليه هذه الحقيقة الكبرى من حقائق صغرى متعددة، ينطوي كل منها على أحداث متشابهة لا نهاية لها، لأن معرفة هذه الحقائق الصغرى، فضلا عن أنها تغنينا عن جمع أحداث متشابهة تشغل الذاكرة، ولا تزيد من معرفة النفس شيئاً، ولا تؤدي إلى معرفة شيء سواها؛ فإنها تمهد لنا السبل إلى إدراك الحقيقة الكبرى التي تعتبر كل حقيقة صغرى وجهاً من وجوهها. فإن معرفة قانون الجاذبية مثلا، لا يحوجنا إلى جمع أحداث تماثل سقوط التفاحة من الشجرة ونزول المطر على الأرض؛ ونضع أيدينا على حقيقة عامة تفتح آفاقاً تقودنا إلى اللانهاية التي تبلغ كل الحقائق الصغرى العامة.
فإن معرفة قوانين الطبيعة على ذلك، والجد في الكشف عن ما جهل منها، أمر ضروري يمهد لنا إدراك حقيقة اتحاد الطبيعة بالله، ومعرفة وحدة القانون في وجوه الطبيعة المختلفة أي أن طلب العلم لا يقصد به مجرد التثقيف وتوسيع أفق المعرفة أو أن معرفة قوانين الطبيعة ليست هي في ذاتها غاية بحثنا في العلوم فإن قانون الجاذبية يعني أكثر من سقوط تفاحة على الأرض، وأن قانون تطور الأنواع يعني أكثر من تعاقب المخلوقات؛ إذ أن معرفة مثل هذه القوانين يفسح لنا الطريق للاندماج في مكونات الطبيعة والاتحاد بمحتوياتها