ويطرق سمعه - في عنف - خليط من الهرج والمهرج. . . يترامى إليه من بلبلة الأصوات وضوضاء العجلات، وصفق الأبواب وهدير الأجراس وصفير القطار وضجيج الناس وعجيجهم في كل محط يقف به!.
وكان الزمن يمضي متباطئاً على مهل حيناً، وسريعاً على عجل حيناً آخراً. . . ولاح لكليموف وكأن القطار يقف كل دقيقة في محطة!. وتمر به القطارات الأخرى سراعاً يلاحق بعضها بعضاً بينما قطاره يتهادى في سيره ويدوي ويجلجل!. . .
إن مسمع تلك الجلبة وذلك الصفير. . ومرأى هذا الفنلندي وهذه الحلقات من الدخان ينفثها من غليونه في الهواء. . . كل ذلك تمازج مع الكآبة السوداء التي تعتديه في إيهام. وتمخض عنه كابوس مخيف يجثم على صدره، ويكاد أن يزهق أنفاسه!.
وبينا هو في غمرة ذلك العذاب الأليم، ورفع رأسه المصدع ونظر من خلال عينيه الذابلتين. . . إلى المصباح!. وقد راح يرسل ضوءاً واهناً متراقصاً لا يثبت على شيء. . ويعقد الظلال، ويشيع جواً من الرهبة والغموض!!
وود (كليموف) لو يرفع صوته بطلب شربة ماء. . . ولكن لسانه جمد. . . فقد يبس ريقه وجف حلقه من حرقة الصدى!. كما أن قوته وهت عن أن تجيب (الفنلندي) إلى ما يسأله إياه، وتستمع إلى ما يهذي به.
فحاول أن يمدد جسده على المقعد حتى تداعب عينه سنة من النوم. . . ولكن النوم أبى عليه أن يأخذ بمعاقد أجفانه. وظلت تلك الكآبة القاتمة والخواطر السوداء والصور الغريبة تعبث به وتعيث من حوله. . . في حين أن ذلك (الفنلندي) نام ملأ جفونه ما حلا له النوم، وعلا شخيره؟. ثم أفاق من نومه وأشعل غليونه وطفق يحدثه ويردد (ها!!.) ثم لم يلبث أن غط في النوم من جديد! وتحامل (كليموف) على نفسه في (سبيروف)! ونهض يسعى في طلب الماء!. فامتد طرفه إلى فريق من الناس يجلسون إلى مائدة حافلة بالطعام، ويأكلون في شراهة وعجلة. . . فتمتم وهو يحاول أن ينأى بأنفه عن رائحة الشواء ويشيح بوجهه عن مرأى أولئك القوم وهم يلوكون الطعام في أفواههم المكتظة:(كيف يأكلون؟!)
ثم لمح بعد ذلك امرأة وضيئة تتحدث إلى رجل عسكري يضع على هامته قلنسوة حمراء.