ثم لم يلبث أن غاب في سبات قلق مضطرب، سعى إليه فغل أطرافه وأغمض أجفانه!!. . .
فلما ثاب إلى رشده - بعد أن تقضي زمن طويل - رأي النهار بازغاً، والشمس تبعث في أوصال الكون ضياءها!. . .
وكان السفر يهمون بارتداء معاطفهم، ويتهيأون لمغادرة القطار. . . حتى إذا وقف في الموضع الذي أعد له. . . أسرع الحمالون في مآزرهم البيضاء، وأرقامهم النحاسية الصفراء. . . إلى الركب يحملون عنهم متاعهم وحقائبهم. . .
فألقى (كليموف) معطفه على منكبيه في حركة آلية. . . وغادر القطار!. وأحس - وهو يسير انه ليس هو. بل مخلوق آخر!. غريب. . . وأحس أن حرارة القطار مازالت ناشبة فيه. . . وأنه ما برح مصحوباً بذلك الصدى في حلقه. . . والأشباح من حوله. . . والكآبة في نفسه. . . وهي التي جميعاً حرمت جسده لذة الرقاد وحبست عن عينيه نعمة النوم. . .
واستقل عربة - كانت واقفة خارج المحطة - بعد أن وضع أمتعته إلى جواره في تلك الحركات الآلية. . . وتقاضاه السائق (روبلا وخمس وعشرين كوب) حتى يبلغ به دارة في شارع (بوفارسكا). . . فأذعن لما أراده عليه، ولم يساومه وهو يعلم حقاً أن ثمت زيادة في الأجر. . . بيد أن النقود لم تكن ذا قيمة لديه في ذلك الحين!. . .
فلما بلغ بيته. . . تلقته خالته بالترحاب!. وقابلته أخته وهي غادة هيفاء شارفت ربيعها الأول من العمر. . فحيته بإيماءة رقيقة وهي ممسكة بقلم تخط به في كراسة معها. . . فتذكر أنها تتهيأ لامتحان تنال به إجازة التدريس. .
ولكنه لم يرد تحيتها ولا أجب على أسئلتها!. بل راح يلهث من الأتون الذي يضطرم في صدره. . . وانطلق على غير هدى ولا بصيرة. . يجتاز الحجرات إلى حجرته. . فارتمى على فراشه يئم ويتأوه.
وتراءت لخياله من جديد تلك الأشباح والصور التي لزمته في القطار!. الفنلندي وغليونه. . الجندي ذي القلنسوة الحمراء!. والسيدة ذات الثنايا اللؤلؤية. . ورائحة الشواء. وضياء المصباح الواهنة. . المتراقصة.!! فأفقدته صوابه وسلبته رشده وجعلته لا يبصر ما حوله ولا يسمع تلك الأصوات القلقة على مقربة منه.!