ومددت بينك وبين هؤلاء القوم الأقطار الشاسعة والبحار الزاخرة، وتيقنت بعد المرام عليهم واستصعابه، واستخلصت بلاداً أنت اخترعتها وبسطت سلطانك عليها، وجعلت الإدارة فيها لولدك وهم طوع يمينك، ثم ملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرك وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع لكنت اليوم على رأس دولة يتعاظمون هيبتها وخطرها، وما انتهى بك الأمر إلى هذه الحال فتضع عنقك في يد من لا يرحمك! ألا ليتك والله فعلتها يا أخي!).
فصاح موسى من قرارة نفسه:(كلا، كلا، الويل لي لو فعلتها! والويل لي لو فعلتها!! وهل كنت تحسبني يا فتى المهلب أروم خطة لنفسي أو أبني دولة لولدي، ألا بعداً لي من رحمة الله إن هجس هذا الخاطر بقلبي مرة، ألا سحقاً لي لو نزعت إلى هذه الشنعاء وشققت عصا الطاعة على خلافة الإسلام، وشطرت الأمر في الحكم إلى شطرين، يقف كل من صاحبه بالمرصاد، فما هي إلا مراوغات ومصاولات حتى ينقض الأمر من أساسه، ويذهب سلطان الدين، وتدول دولة المسلمين، فالويل لمن يفعلها فيفتح باب الطريق إلى الهلاك والفناء. . . يا ابن المهلب: إنها كلمة الله كنت أسير بها في الآفاق، وأمهد بها لسلطان الإسلام، وأقوى بها رابطة المسلمين، وأمكن بها لنفوذ الخلافة وهيبتها، وما كنت أرجو من وراء ذلك مكانة زائفة ومنزلة زائلة، ولكن كنت أطمع فيما هو أغلى وأعظم، كنت أطمع في ثواب المجاهدين عند الله، وما أحسبه سيحرمني من الجزاء وإن حرمته عند صاحب السلطان).
قال يزيد:(طوبى لك يا ابن نصير، فاطمئن في مكانك وإني لقاصد إلى الخليفة في شأنك، ثم عائد إليك).
ورجع يزيد بعد أن تكلم مع الخليفة في شأن صاحبه، رجع وعلى شفتيه كلام، وبين جوانحه هم ممض، وكان صاحبه في انتظاره على أحر من الجمر، وجلس الصديقان متقابلين، يريد موسى من صاحبه أن يتكلم، ويريد صاحبه ألا يتكلم. . .
ومضت فترة كأنها الدهر، ثم انفرجت شفتا يزيد عن صوت خافت يقول: (لا عليك يا صاحبي فإن الله يتولاك فيما بقى، ويعلم الله أني بذلت ما في طاقتي وأكبر مما في طاقتي، وقدمت نفسي ومالي فداء لك عند سليمان، وإني في ذلك لصادق، وأعلمته أنك نزلت