الدوائر، ونصب له المكايد الخاتلة، وإذ ذاك لجا الشاعر إلى أستاذه الإمام، فكتب إليه من خطاب طويل (ولقد قعدت همة النجمين، وقصرت يد الجديدين، عن إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد (يريد كتشنر) فقد نما ضب ضغنه عليّ، وبدرت بوادر السوء منه إلي فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم. . .) وكأن الله عز وجل قد أراد الخلاص للشاعر من أقرب طريق فأحيل إلى الاستيداع، وغادر الخرطوم إلى القاهرة، بعد أن ثكل وضيفته الحكومية وضاقت سبل العيش في وجهه، ولم ير غير الشعر صديقا وفياً، يبثه نجواه، ويستطلعه خبيئة سره إذ يقول:
سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما
لحا الله عهد القاسطين الذي به ... تهدم من بنياننا ما تهدما
إذا شئت أن تلقي السعادة بينهم ... فلا تك مصرياً ولا تك مسلما
سلام على الدنيا سلام مودع ... رأى في ظلام القبر أنساً ومغنما
وواضح أن اختلاط الشاعر بالمحتلين فترتين متعاقبتين قد حول صدره أتوناً ملتهباً يشتعل بالغيض، فهو وحدة بين شعرائنا السياسيين، قد لمس عن كثب شنائع الاحتلال، ولكنه اضطر مرغما أن يكبت عواطفه - وقتاماً - غب قدومه إلى القاهرة كيلا يقف المعتمد البريطاني في وجهه وهو يبحث عن عمل حكومي يرتزق منه؛ وأنى للشاعر أن يصبر على الضيم والذلة، والشعب في شر حاله، تنهب امواله، وتغتصب خيراته، فلا أقل إذن أن يواسيه بعزاء دامع يفصح عن إحساسه، وينطق عن شعوره، كأن يقول:
أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا ... ونحن نمشي على أرض من الذهب
والقوم في مصر كالإسفنج قد ظفرت ... بالماء لم يتركوا ضرعاً لمحتلب
فقد غدت مصر في حال إذا ذكرت ... جادت جفوني لها باللؤلؤ الرطب
إذا نطقت فقاع السجن متكأ ... وإن سكت فإن النفس لم تطب
وقد رأى حافظ أن يتوجه في محنته إلى الخديوي، فيخلع عليه بروداً ضافية من مديحه الرائع عسى أن ينقذه من وهدة التعطل والبطالة، ولكن مدائحه الرنانة قد تلاشت في مهب الريح، ومضى الشاعر يطرق أبواب العمل باباً باباً، والأيام تمر ثقيلة بطيئة في غير طائل، والحاجة ماسة والحظ شحيح!! ويشاء الله أن ييأس من العمل الحكومي ياساً تاماً،