فينقلب إلى ثائر هائج، يحارب الاستعمار بما في يراعه من قوة وبيان، وهنا تئن القيثارة الحزينة، فتهز الأوتار هزاً عنيفاً، وتخرج الصحف على الشعب ملتهبة بزفرات حافظ، فلا تكاد تمر بها الأعين القارئة، حتى تشعل جمر الغضب في الصدور، وينظر القراء فيجدون مشاعرهم الكظيمة مبسوطة في شعر حافظ السياسي، فيتغنون به في مجالسهم، وينشدونه في الغدو والرواح حتى أيقظ الهمم الغافية، وأضاء العقول الدامسة، فهب الشعب يؤدي واجبه الوطني - إزاء الغاصبين - بقدر ما يستطيع.
على أن حافظا كان يلمح بصيص الأمل يلوح له بالاعتصام بحبل الدولة العثمانية، فهي المملكة الإسلامية التي تتجه إليها أنظار المخلصين من أبناء العقيدة المحمدية، ومهما قيل عن بغي الخلفاء فهم أهون من أعداء اللغة والدين والوطن، لذلك كان الشاعر يمدح سلاطين تركيا بوازع من دينه وعقيدته، ويسيد بتاريخهم المديد كيلا ينخدع الشعب بدعاية بريطانيا الجوفاء ثم هو في مديحه لآل عثمان يقصد دائما إلى هدفه الاصيل، فينبه الخليفة إلى أفاعي الغرب الخاتلة، ويحذر الشرق من الاستكانة والخنوع، كأن يقول في عيد تأسيس الدولة العلية:
فيا شرق إن الغرب إن لان أو قسا ... ففيه من الصهباء طبع مذوب
فخف بأسها في الرأس والرأس تصطلي ... وخف ضعفها في الكأس والكأس تطرب
ويا غرب إن الدهر يطفو بأهله ... ويطويه تيار القضاء فيرسب
أراك مقر الطامعين كأنما ... على كل عرش من عروشك أشعب
وإذا كان مصطفى كامل قد اتخذ من حادثة دنشواي دليلاً قوياً يستند إليه في كفاحه خارج مصر، فإن شاعر النيل قد شهر هذا السلاح بعينه ليحارب به الأعداء في الداخل. فقد نظم قصائد عديدة مال فيها إلى السلاسة والوضوح. ليفهمها الشعب المصري عن بكرة ابيه، وقد مثل فيها المأساة الدامية تمثيلا يستدر الدموع ويشعل الأفئدة، ودونك بعض ما يقول:
حسبوا النفوس من الحمام بديلة=فتسابقوا في صيدهن وصوبوا
والمستشار مفاخراً برجاله=ومعاجز ومناجز ومخرب
يختال في أنحائها متبسماً=والدمع حول ركابه يتصبب
رفقاً عميد الدولتين بأمة=ضاق الرجاء بها وعز المطلب