فكم ضحك العميد على لحانا ... وغر سراتنا منه ابتسام
فلا تتقوا بوعد القوم يوماً ... فإن سحاب سادتهم جهام
وخافوهم إذا لانوا فإني ... أرى السواس ليس لهم ذمام
فما سادوا بمعجزة علينا ... ولكن في صفوفهم انضمام
وقد أراد الله لمصر بعض الخير فمات السير خورست واستراح الشعب من حبائله الصائدة، ولكن حافظاً لم ينتظر في دنيا الحرية كثيراً بعده حتى يواصل حملاته العادلة، بل انتقل إلى العمل في دار الكتب المصرية، وللوظيفة قيود تكبل بها الألسنة الصارخة لا سيما إذا كان صاحبها ذا ضرورة إلى ما تدره عليه من أجر، فألجم الشاعر فاه عن السياسة، وحطم قيثارته الشادية، وتلك خسارة فادحة غرمها حافظ أكبر غرم، كما قابلها عشاق أدبه الرفيع بهم زائد وأسف وجيع.
وقد يقول قائل: لماذا أمسك حافظ عن النظم السياسي كموظف في الحكومة؟ مع إن زملاءه الموظفين من الشعراء النابهين كعبد الحليم المصري، وأحمد نسيم، ومحمد الهراوي، وعبد المطلب قد واصلوا العزف على أوتارهم السياسية، دون أن يقف في طريقهم واقف؟! وأنا أقول عن الرقابة كانت موجهة إليه أكثر من غيره لما يغرفه أولوا الأمر من تأثيره القوي في الجمهور، وإلا فهل كان من المعقول أن تندلع الثورة المصرية، وينفى الزعماء، ويعتقل الشباب، وتنشق الكلمة وتختلف الأحزاب؛ وشاعر النيل ساكت عن ذلك كله بإرادته ومشيئته! كلا ثم كلا! بل إنه نظم قصائد حية، ونشرها غفلاً من إمضائه كما وزعت بعض المنشورات السياسية تحمل قلائده اللامعة، وجميع ما قاله في هذه الآونة لم ينشر على الناس عامة إلا بعد استقرار الحالة في مصر، وقد أشار إلى ذلك ديوانه في مفتتح بعض القصائد، كما أنه كان ينتهز الظروف التي تحميه من العقاب فينفض ما في وعائه، واقرأ قصيدته التي قالها في تهنئة سعد زغلول بنجاته سنة ١٩٢٤ فستجده يقول.
لا تقرب التاميز وأحذر ماءه ... مهما بدا لك أنه معسول
الكيد ممزوج بأصفى مائه ... والختل فيه مذوب مصقول
كم وارد يا سعد قبلك ماءه ... قد عاد منه وفي الفؤاد غليل