قليل وإذا بالاستقلال يعترف به مثقلا بالقيود والاصفاد في تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢. ثم استقلال مخفف القيود في عام ١٩٣٦.
أدركت مصر كل ذلك بفضل تلك الحركة الطائشة الخيالية الجنوبية في نظر المستعمرين، أو الحركة الوطنية الطبيعية في نظر المصريين ونظر القدر.
كيف كانت حال مصر حين قامت وتحركت. وحين نهضت وغضبت. وحين فارت وثارت. وحين تغلبت على العقبات وانتصرت في ظروف كاد النصر فيها يبدو محالا أو حلماً من الاحلام.
هل كان لدى مصر طائرات ودبابات، وجيوش جرارة ومدافع ولوريات؟
هل كانت لديها كنوز البحار. أو ذخائر من الحديد والنار وكل أدوات الدمار؟
كلا. لم يكن لدى مصر شيء من ذلك على الإطلاق. وإنما كانت عندها ذخيرة لا تنفذ من الوطنية وحماستها. والكرامة وعزتها. والشجاعة وغيرتها. والإيمان العميق بعدالة القضية وحق الوطن. يدعم ذلك كله اتحاد رائع وإجماع كامل في المشاعر والعزمات والايثار.
كان شعب مصر في ظلال الحماية والاحتلال يعيش آحاداً وأفراداً وشيعاً ممزقة. فلما بزغت شمس ١٣ نوفمبر فاجأت مصر العالم عامة، وبريطانيا خاصة بشعب متحد، لا ثغرة فيه، نبض بشعور واحد، ولا نشوز فيه، واتجه في اتجاه واحد، لا عوج فيه بهذه الكتلة المتحدة صمدت مصر للاحداث الجسام. وغالبتها، فغلبتها. وكان الفضل في هذا التوفيق راجعاً إلى توحيد الصفوف، وتوحيد الرأي والشعور فكانت مصر من أقصاها إلى أقصاها تتحرك بكلمة واحدة يلقيها زعيمها الأوحد وأعوانه المتضامنون المتحدون.
كان الأغنياء يبذلون المال سخياً، متبارين متنافسين لتمويل خزانة الجهاد وشد أزر المجاهدين.
وكانت التضحية وكان الايثار وانعدام الأثرة، شعار الجميع: كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء.
وكان الجيش والبوليس والعمال والفلاحون والطلبة والأعيان والموظفون والمحامون والمهندسون وكل أصحاب المهن الحرة جماعات تفيض صدروها بشعور واحد في بذل كل مجهود يطلب لإنقاذ الوطن. ولم يكن هناك خلاف بين هذه الجماعات إلا في الأزياء والأرزاق والأعمار.