للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهي كما تعلم، جراءة قول، وتكبر نفس، فقد ضرع أمام جمالها الفاتن الوزيران الأدبيان ابن زيدون وابن عمار، فهزأت بهذا حيناً، وسخرت بذلك أحياناً، ولكن لم تكد ترى أبا الوليد يداعب جارتها (عتبة) حتى دبت عقارب الغيرة إلى قلبها، وعلى وجهها سحابة قاتمة، من الضجر والضيق، فتركت كبرياءها وكتبت إلى عاشقها تقول:

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جارتي ولم تتخير

وتركت غصناً مثمراً بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني (بدر) الدجى ... لكن ولعت لشقوتي (بالمشتري)

فكيف إذن نلوم أم الضحاك وقد أبدت ولادة العظيمة ما أبدت من الغيرة والاندفاع. على أن للمحاربية الخاملة في باب النسيب ما يضعها في منزلة ولادة النابهة، وما زلت أردد في إعجاب قولها الرائع:

حديث لو أن اللحم يشوى بحره ... طرياً أتى أصحابه وهو ينضجُ

ونعرج على الحالة الثالثة، وهي كثيراً ما تتكرر أمامنا من حين إلى حين، فقد تكون المرأة عاشقة صبة، فتجاهد نفسها في إخفاء ما تكابده مجاهدة قائلة، ثم تمر الأعوام وراء الأعوام فإذا الشابة العاشقة تصير عجوزاً شوهاء، ذات أولاد وأحفاد، وإذ ذاك لا تبالي بنقد، أو تحفل بتجريح، بل يطيب لها أن تجلس مع العذارى الناهدات، قارئة تأريخ قلبها الحافل بالعجائب والغرائب، دامعة على صباها الغارب، وشبابها المرحوم، ولا عليها في ذلك ما دام الجميع يتهمها بالهتر والتخريف، وما دامت قريبة من القبر، فهي هامة اليوم أو الغد، وأي نقد يوجه إلى شمطاء شهربة، تدب على العصا، وتمشي بها مشي الأسير المكبل كعشرقة البدوية إذ تقول:

جريت مع العشاق في حلبة الهوى ... ففقتهمو سبقاً وجئت على رسلي

فما لبس العشاق من حلل الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلى

ولا شربوا كأساً من الحب حلوة ... ولا مُرة إلا شرابهمو فضلي

ومع ما في هذا القول من الصراحة التامة، فأنه إذا قيس بشعر الرجل كان جميل الأثر، طيب الوقع؛ فنحن نرى الإباحيين من فساق الشعراء كامرئ القيس والفرزدق وبشار يطنبون في ذرياتهم الماجنة، إطناباً تنقبض له الصدور، ولو أننا لا نريد أن ننشر هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>