للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عداد الزعماء الخالدين. . .

إن الكلام رأس مال الزعماء، فلم لا أكون من أهل الكلام؟ هذه حقيقة أيقنت بها فأحببت أن أروض نفسي على الخطابة ورحت أفتش عن مكان خال من الناس، ناء عن المدينة فلم أجد خيراً من قبة (البرناوي) القائمة على مسافة كيلو متر من شمالي حماه الغربي، على سفح منحدر ينتهي بطريق ضيقة تؤدي إلى البساتين النائمة في أحضان (العاصي).

وهناك كنت أقضي الآصال هانئاً بالوحدة، ناعماً بمنظر الخضرة والماء. . وكنت أخطب فأطيل ولا أمل؛ ويتملكني الحماس فأرغي وأزبد، ولا أجد من يسمع صوتي غير البقرات العائدات من البساتين، وقد رحن يمشين مشياً وئيداً في الطريق الضيقة في أسفل المنحدر وخلفهن بعض القرويين التعساء. . . وكن إذا ما مررن من أمامي بعيداً عني وسمعن صوتي يقفن قليلاً ويملن بعنقهن نحوي ثم يهززن رءوسهن وبعدن لسيرهن فيخيل إلي أنهن يقلن لي: (إذا أصبحت نائباً فأرخص لنا الشعير. . .) فأجيبهن: (نعم سأرخص لكن الشعير أيتها البقرات العزيزات!. . .)

وقد ملكت الخطابة نفسي فأصبحت وكلامي كله يكاد يكون خطابة. . واتفق أن رجعت ذات مساء إلى البيت ودخلت غرفتي وأغلقت الباب وشرعت أخطب. . وما هي إلا لحظات حتى انفتح الباب ودخلت أمي والدموع تملأ عينها: (سلم الله عقلك!. . ماذا أصابك يا بني!.) فلزمت الصمت ولم أحر جواباً. ولكنها أردفت قائلة: (أتريد أن تكون كجارنا أبي رشيد. . .) وخيم الصمت علينا ثم انسحبت من الغرفة وأغلقت وراءها الباب. ولم أكد أخلوا إلى نفسي حتى فكرت فيما قالته أمي. . وأصغيت قليلاً فإذا بصوت جارنا (أبي رشيد) يخترق الظلام ويطرق سمعي.

مسكين أبو رشيد!. . لقد مر عليه شهران والأغلال تلازم يديه والقيود تثقل رجليه. . إنهم يقولون أن به مصاً من الجنون. إنه لم يؤذ جاراً ولم يضر إنساناً ولكن أبناءه بصروا به يخطب في الشوارع والأسواق فاقتادوه إلى بيته وحبسوه في غرفته. . . لقد بح صوته وهو يقول أن ليس به مجنون. ولكن ما من سامع! واختنق وهو يدعو للأخلاق القويمة. . ولكن ما من يطيع!. وهذا صوته يصل إلى أذني ضئيلاً وهو ينادي:_أيها القوم! الدين لله والوطن للجميع!. أن بناء الوطن لا يقوم على الطين والأحجار ولكن على المهج والأكباد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>