للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بحرها ورويها وتتجاوب مع روحها ومغزاها. فإذا اجتمع لنا الفكر الرجيح والخيال المجنح والموسيقى الشجية مع توفر الصدق والإحساس ودقة التعبير كان لنا أدب رائع يستحق أن نفاخر به الأمم والأجيال وكل ذلك متوفر في شعر نعيمه ونثره. . .

والآن انتقل بك أيها القارئ إلى لون آخر من مائدة نعيمه الروحية فأعرض عليك شيئاً من شعره المتشائم الحزين. فقصيدته (قبور تدور) على ما فيها من تشاؤم مر يبعث الألم والحزن في القلوب، حقيقة نعرفها ولكن لا نريد أن نصدقها، وهو في هذه القصيدة يمجد جمال الروح ويزدري جمال الجسد كما يؤمن بأن الفناء بقاء وأن البقاء امتثال لإرادة الله كما أن الرجاء شقاء البقاء والمساء شقيق الصباح.

بعينيك نور تراه العيون ... جميلاً فتضحك منها المنون

لأن المنايا تحدق فيك ... بعين الزمان التي لا تخون

فتبصر في مقلتيك تراباً ... وتبصر دوداً وراء الجفون!

فخلى جمالاً يراه الغرور ... وليست تراه عيون الدهور

وخلى الجهاد وخلى الطموح ... وخلى القصور وحي القبور

ودوري مع الكون جيلاً فجيلاً ... فهل نحن إلا قبور تدور؟!

إن نعيمه لا يريد أن ننخدع بقشور عن لبابها ولا يحب لنا أن تعمينا أعراضها عن جوهرها، لهذا لجأ إلى ذلك الأسلوب العنيف ليحد من شهواتنا ويهذب من غرائزنا التي تتهالك على الجمال الفاني تهالك الذباب على الحلوى، ذلك الجمال الذي لا تكاد نعب منه حتى يزداد عطشنا ونحس بالجوع يمزق أحشاءنا؛ وليس أسلوب نعيمه هذا بدعة في الأساليب، فقبلة الأنبياء والمصلحون الروحيون قد استعانوا بهذا الأسلوب للحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة، والأديان السماوية تقوم على الوعيد أكثر مما تقوم على الوعود، ونعيمه فضلاً عن تأثره العميق - روحاً وتفكيراً وأسلوباً - بالكتب المقدسة والديانات والفلسفات الهندية والصينية نرى للأدب الروسي عامة ولتستوي ودستويفسكي خاصة أثراً ملموساً في بساطة تعبيره ونزعته الروحية والصوفية المشبعة بالحكمة العالية. . وظاهرة أخرى تلفت النظر في شعر نعيمه وهي أن قصائده متقاربة التاريخ فآخر تأريخ لما نظمه بالعربية هو عام ١٩٢٥، ففي شعره تجد الإيمان إلى جانب الشك والتسليم إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>