إلى زمنها السالف حميدة مقبولة، لأنها محاكاة للشعر القديم في دقة تدل على نظر ثاقب وفكر حصيف، على أن الدقة كانت تخون الأمير في بعض الأحايين، فيظهر شعره معلناً عن أصله الذي قيس عليه وإليك قوله في مطلع قصيدة.
بقلبي ما تهمي العيون وتأرق ... وللعين ما يبلى الفؤاد ويرهق
وما كنت ممن يرهق العشق قلبه ... ولكن من يدري فنونك يعشق
فهذان البيتان يشهدان أنهما مأخوذان من قول المتنبي.
لعينك ما يلقي الفؤاد وما لقي ... وللشوق ما لم يبق مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق
ومثل هذا التقليد في (الباكورة) كثير.
وما كاد أمير البيان بتجاوز هذا الدور ويخطو في العقد الثالث من عمره حتى تمكن من فنه واستوى على قمة مجده، فصار جيد السبك، وثاب الخيال، بعيداً عما بيناه من المحاكاة والتقليد، ولقد كان مولعاً بأستاذه البارودي إلى درجة جعلته يكثر من التفكير فيه، فصار لا يكتب مقالاً في جريدة أو بحثاً في مجلة، إلا توجه بشعر سامي، مبالغاً في إطرائه، وتشاء الأقدار أن تقع بعض هذه الكلمات في يد رب السيف والقلم، وهو نازح عن عرينه في سر نديب، فيدفعه شوق عاصف إلى من يثني عليه ثم يغلو به الحنين فيكتب إلى الأمير على بعد الدار ونزوح المزار.
أشدت بذكرى بادئاً ومعقباً ... وأمسكت لم أنبس ولم أتكلم
وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ ... حباني به لكن تهيبت مقدمي
ولك أن تتصور فرحة الأمير بكتاب أستاذه، فقد حقق له أمله الكبير في التعرف به، فطفق يحمد الظروف الطيبة التي هيأت له ما يريد، ثم كتب إليه قصيدة عصماء تشتعل وجداً وتندلع حناناً وفيها يقول.
إلى كل يوم فيك وجد كأنما ... طوى جانحاً منى على نار ميسم
حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالسدرة العليا ألية مقسم
لألفيت عندي دوس مشتجر ألقنا ... وخوضي في حوض من الدم مفعم
أقل لقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذاك المقام المعظم