الطريق لإنماء معارفهم وجني ثمار عملهم، بل أنهم أبعدوا عمداً عن وظائف الدولة وجميع الأعمال المتصلة بها تقريباً إذ يشغلها طبعاً رجال الانتداب، فرنسيون وإنجليز، وكل ذنبهم أنهم تنكروا لنظام الانتداب ففرت منهم معظم وظائف الإدارة في بلادهم، وحرموا من مورد عدل مشروع.
وهاكم مثلاً لتوضيح ما تقدم: إن بمجلس النواب كثيرين أميين، على حين أن البلاد تزخر بالمتعلمين الذين لا يبغون إلا أن يخدموا بلادهم بمعارفهم، وتفسير هذا الأمر أن حكومة الانتداب ترغب في توطيد مركزها بسهولة.
أما الوظائف القليلة التي شغلوها بعد لأي فلا تتناسب مع مستوى تعليمهم، والحاجة هي التي أرغمتهم على قبول وظائف أبعدتهم تماماً عما تخصصوا له، ولطالما خضعوا لرؤساء من رجال الانتداب لا يحملون أية درجة جامعية
وكذلك كانوا في ميادين الحياة الأخرى، تميز الأجانب عليهم وارتفعوا على أكتافهم بفضل سلطات الاحتلال
ولا ينبغي أن ننسى أن بالبلاد العربية أراضي شاسعة ما تزال بكراً كان يمكن أن تقوم بها مشروعات زراعية وصناعية فتشغل كل هذه الطبقة العاطلة
ولقد كان لهذه الأزمة الفكرية أثر نفسي سيئ في الشباب فألقوا نفوسهم دون وعي في أكثر الدراسات قدرة على تأمين مكسب متواضع سريع مما أدى إلى وقف النضوج الذهني وقتل الطموح
وأحس الجميع بهذه الأدوار المادية والفوضى الذهنية المنتشرة فإذا أضفنا إلى هذه الحالة المعنوية ما يعانيه الشباب من الإذلال والامتهان المستمرين فهمنا بجلاء سبب جنوحه عن غرضه الأصلي بالنسبة له ولبلاده واندفاعه بحرارة وحماسة نحو السياسة لكفاح الاستعمار الأجنبي الذي سبب كل هذه الأدواء، وهو لم يكن قد أدرك إلا بعد سنين طويلة أن حاله تزداد سوءاً، وأن بلاده تشرف على الهلاك، وأن الضرر لابد أن يقتلع من أساسه لكنه إزاء الصعوبات الحاضرة والانقلابات الاجتماعية المتوالية ظل مغلولاً محروماً من كل وسائل الكفاح فالحاضر يفلت منه إذ لا يعاونه نظام البلاد الاقتصادي والسياسي، والمستقبل لا يمثل له إلا نذيراً من الإبهام والقلق المخيف