ومضت يا بني سنوات أخر، وتقلبت الأحوال بالناس ما تقلبت، وجدت أمور بعد أمور؛ ولكني رجلاً من أصحاب الأمر لم ينس أن له ثأراً عند المختار بن أبي عبيد؛ ذلك مصعب ابن الزبير يا بني، أمير تلك الجهات من قبل أخيه عبد الله المتأمر بمكة؛ فقد كان يرى المختار دعياً في شيعة علي، يتلصق بهم ليطلب لنفسه ملكاً وإمارة؛ وقد سبقت له بيعة لعبد الله ابن الزبير في مكة على أمل يأمله، فلما خاب أمله ذاك زعم أنه شيعة علي والثأر لولده، ليصل بذلك إلى مناوأة الأمويين والزبيريين جميعاً؛ فنهد مصعب لحربه بالجيش اللجب، تشايعه قبائل وبطون وجماعة من أهل الرأي وطائفة من أولي البأس في الحرب؛ والتقى الجيشان في معارك، ودارت الدائرة على المختار فلجأ إلى دار الإمارة بالكوفة معتصماً في طائفة قليلة من أصحاب لا قوة لهم على المقاومة؛ وحصرهم جيش الزبيريين حتى لم يجدوا أبداً من البروز لحربهم أو النجاة بأنفسهم؛ ونالت المختار ضربة كانت فيها نفسه، فاجتز رسه وحمل إلى الأمير مصعب بن الزبير في قلعة الكوفة.
وكما شهدت من قبل رأس الحسين ورأس ابن مرجانة بين يدي أمير القلعة، شهدت رأس المختار. . .
وكأنما هجس بنفسي وقتئذ هاجس وأنا أنظر إلى مصعب بن الزبير وبين يديه رأس المختار وتمثلت لي صورة غير التي تراها عيناي في تلك الساعة؛ فكأن الذي في الطست ليس هو رأس المختار بن عبيد، ولا رأس ابن مرجانة، ولا رأس الحسين؛ ولكنه رأس مصعب نفسه؛ وكأن الأمير الجالس على الكرسي رجل آخر غيره، ولكنه رجل لا أعرفه، لأن عيني لم تقع عليه قط.
هذا منظر تكرر على عيني ثلاث مرات، في صورة واحدة، ومكان واحد، ولأسباب تكاد تتشابه؛ فكأنما رأيت منظراً رابعاً لم يره أحد بعد، وكأن هاتفاً من وراء الغيب يهتف بصوت أكاد احكي نبره: لكل باغ يوم!. . .
واستقرت هذه الصور الأربع في واعيتي لا أكاد أغفل عنها طرفة عين؛ أما ثلاث منها فرأيتها رأي العين ووعيتها وعي اليقظة؛ وأما الرابعة فكانت وهماً تجسد حتى قارب أن يكون حقيقة مما يدرك بالحس! قال الشيخ:
لست أدري يا بني أكانت هذه الصور الأربع في واعيتي أنا وحدي أم كان غيري يعيها؛