ولكن الذي أرويه يقيناً هو أن رجلاً واحداً من الذين شاركوا في هذه الحوادث الدامية لم تخطر على باله قط الصورة الرابعة؛ ذلك هو مصعب بن الزبير نفسه! وتوالت الأعوام يا بني وهذه الصور تتراءى لي في يقظتي وفي منامي، حتى حرمت على نفسي أن أجوز ذلك الطريق حتى لا تقع عيني على تلك لقلعة المشئومة فتجد لي ذكريات وتبعث تلك الصور البغيضة إلى نفسي. . .
وكان عبد الله بن مروان على عش بني أمية في الشام، وقد تفانى أعداؤه ومناوئوه طائفة بعد طائفة وأهلك بعضهم بعضاً فلم يبق ثمة من يخشى خطره غير ابن الزبير؛ فهيأ جيشاً سيره نحو العراق لحرب مصعب؛ وأنظم إليه فلول من أصحاب المختار ابن عبيد، لا يحملهم على الحرب معه إلا الرغبة في الثأر من قاتل صاحبهم. . .
والتقى جيش الزبير وجيش الزبيرين وجيش بني أمية في مسكن، على نهر الدجيل، عند دير الجاثليق؛ ونشبت المعركة، فشد على مصعب رجل من أصحاب المختار وهو يقول: يا لثارات المختار! وطعنه فأبلغه أجله. . .
واحتز رأس مصعب وحمل إلى عبد الملك بن مروان في قلعة الكوفة. . .
وشهدت الصورة الرابعة عياناً، وكنت أراها رأى المتوهم منذ بضعة سنين. ورأيت عبد الملك بن مروان جالساً على كرسيه وبين يديه الرأس في الطست. . .
وكان بين مصعب وعبد الملك مودة حين كانا في المدينة قبل أن ينزغ بينهما الشيطان. . . وأحسبني رأيت دمعة في عين عبد الملك وهو يقول محزوناً وينظر إلى رأس مصعب:(متى تغدو قريش مثلك!؟)
وغامت على عيني غائمة، فقلت ولا أكاد أعي ما تلفظه شفتاي:(أني رأيت بهذه القلعة رأس الحسين أمام عبد الله بن زياد، ورأس ابن زياد أمام المختار، ورأس المختار أمام مصعب، ورأس مصعب أمام أمير المؤمنين!. .)
وبلغت كلماتي أذن الأمير، فكأنما تطير مما سمع، فأمر بنقض بنيان القلعة؛ فهي من يومئذ أنقاض يا نبي!