عذب التراكيب، غواصاً على المعاني، فصيح الألفاظ، حلو النادرة، وكان صاحب مجون ولطافة)
وقد رأيت حقاً أنه يمتاز بالغوص على المعاني، من شعراء عصره المتهالكين على التصنيع في الألفاظ، ومكانه بينهم يشبه مكان ابن الرومي بين شعراء عصره، مع ملاحظة الفارق الكبير بين الشاعرين وبين العصريين.
ولكنا نريد أن نتصفح أبا حسين الجزار من وجه آخر وهو طبيعة شاعريته، ومدى صدقه الفني فيما قاله من الشعر. وأراني مضطراً هنا في هذا المقام المحدود الذي يجمل فيه القصد إلى الأهم، إلى أن أضرب صفحاً عن القصائد الطويلة الكثيرة التي أنشأها في المدح بدافع الرغبة الملحة في رفع مستوى عيشه وهي لا تختلف كثيراً عن أمثالها مما تحشد فيها صفات المدح حشداً للممدوحين؛ وهذه القصائد وإن كانت كذلك إلا أننا لا نعدم فيها أبياتاً هنا وهناك تظهر فيها ظلال الشاعر وأثر شخصيته، وهي التي يصف فيها حاله وسوء عيشه.
وإذا أردنا أن ننتقل إلى الميدان الذي كان يركض فيه مجلياً فإننا نضم تلك الأبيات إلى شعر كثير آخر قاله في التعبير عن مشاعره وتصوير ما يحيط به، ولست أدري أكان من حسن الحظ أم من سوئه أن السوق التي راجت فيها مدائحه لم تدم، إذ انتهى ما كان يظفر به من صلات الملوك الأيوبيين التي لم يبق تبذيره على شيء منها ولما عانى من كساد مدحه وجفاف أيدي الممدوحين ما عانى جعل يندب حظه الذي ضاع بين الشعراء والجزارة فيقول:
واللحم يقبح أن أعو - د لبيعه والشعر بائر
يا ليتني لا كنت جزَّا - راً ولا أصبحت شاعر
ولكنه حزم أمره ورجع إلى الجزارة، وجلس بدكانه للكلاب، كما كان يجلس الممدوحين له ولأمثاله من الشعراء وهو يقول في خطاب من يدعي (شرف الدين) وقد لامه على العودة إلى الجزارة:
لا تلمني يا سيدي شرف الد - ين إذا ما رأيتني قصابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ - ت حفاظاً وأرفض الآدابا