لم يكن يومئذ يدري أن المرأة تعشق الرجل المتسلط الذي يغلبها ويفوقها، بقدر ما تحتقر الرجل الذي يترامى على قدميها في ضعف وهوان، ولو كان ضعف المحب وهوان العاشق. . .!
لقد عاشرته خمس سنين كانت معه في البيت كضيف على ميعاد، وكان حظ صواحبها منها أكثر من حظه! وربما قضى الساعات في البيت وحيداً، وهي هناك تنتقل زائرة من بيت إلى بيت، فلم تكن تعرف دارها إلا يوماً واحداً في الأسبوع، هو يوم الاستقبال. . . ولقد كان في البيت مرة وسمع بأذنيه أي الشئون يتحدث فيها النساء: حديث الأزواج، وشح الأزواج، وغفلة الأزواج، ثم الأزياء والملاهي ولا شيء غير ذلك!. . بل لعله رأى بعينيه ماذا يصنعن يوم الاستقبال. لقد نقم على كثيرات من صاحبات زوجه، وعاب عليهن سوء الأدب وقلة الاحتشام، ولكنه لم يجرؤ حتى فيما بينه وبين نفسه أن يسيء الظن بأخلاق زوجه، ولم يجرؤ أن يحدثها عما رأى وسمع؛ خشية أن تلومه على استراق الحديث والنظر. .!. . آه لو كان يدري يومئذ أنها واحدة من هؤلاء حين تكون بعيدة عنه، فلعله كان حينئذ يستطيع أن يردها إلى الصواب!
- ٣ -
وطالت غفلته عن حديث الناس بسلوك زوجه، حتى حين مرض بالإسكندرية صيف عام واشتدت به العلة، وأمره الطبيب أن يعود إلى بلده، فأبت زوجه أن تعود قبل أن ينصرم الصيف، وتركته يخلفها وحدها هناك على الشاطئ في حراسة الشيطان، تداعب أمواجاً في البحر وأمواجاً في البر، لقد كان لها يومئذ رغبات نسيت في سبيلها وفاء الزوجة وبر الأم، فلم تعد إلا بعد شهر!
لم تهنأ إلهام بالحياة في بلد زوجها على ما فيه من جمال وفتنة، وحالت بعد عودتها امرأة أخرى؛ فلم تعد تهتم باسترضاء زوجها، تمحو غضبه بابتسامة الخداع وبهرج الكلم، ومزقت القناع عن وجه عابس، وكشفت صدرها عن ألم وضيق بحياتها في كنف الزوج الحبيب، وراح شوكت يستميلها فلا تزداد إلا نفوراً، ويتحبب إليها فلا تبدي غير البغض والكبرياء. . . وآلمه ما تغير من أخلاقها، وراح يحاسب نفسه على ما قد يكون أساء به إليها، ويحصي ما قصر في حقها وما اقترف، فلا يبدو له إلا صفحات كلها حب ووفاء