إذا كان رجحان الفكرة إنما يظهر لنا بمقدار ما تفسره من الأشياء التي لا تقبل التفسير بغيرها فالقول بان الفضاء مصدر جميع الموجودات يفسر لنا أمورا كثيرة لا نستطيع أن نفسرها الآن ومنها أن الأفلاك وما فيها من المادة نشأت من السدم الملتهبة. . . فمن جاءت السدم الملتهبة بالحرارة؟ هل جاءت بها منها أو من خارجها؟ فإذا كانت قد جاءت بها منها فقد فسرنا الماء بالماء. وإذا كان الفضاء هو مصدر كل حرارة فليس هو بالعدم المطلق كما يقول الأستاذ الحداد.
وهكذا يجهل الأستاذ الحداد معنى (غير المعدوم) فينتهي به الأمر إلى وصف اثبت الموجودات - أو مصدر الموجودات على هذا التقدير - بأنه العدم المطلق الذي لا يتصور له وجود. .!
أن إظهار الخطأ في مقياس التفكير عند الأستاذ الحداد يغنينا عن متابعة كل اعتراض يعترض به لي وجه التفصيل فذلك عناء يطول كل نقاش بين طرفين يجري على غير قياس.
ولعل هذا التمثيل قد أغنانا عن التفصيل والتطويل.
أما قولنا أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر - فمرجعه عندنا إلى الحقيقة المشاهدة في التفكير والكلام.
فالحقيقة المشاهدة أن الإنسان قد يجد الفكرة ولا يجد لها كلاما. ولو كان الكلام هو مصدر التفكير لما وجد الفكر إلا حيث يوجد الكلام.
والحقيقة المشاهدة أننا نجد عقولا رياضية وعقولا فنية وعقولا علمية وعقولا فلسفية، وليس اختلافها في التفكير متوقفا على اختلافها في الكلام.
والحقيقة المشاهدة أن الكلام قد يضيق بأفكارنا فنلجأ إلى التعبير عنها بالرموز أو بتشبيهات المجاز أو بالأنغام والألحان ولو كان هو الأصل في تفكيرنا لما جاشت أنفسنا بفكرة واحدة لم تخلق لها قبل ذلك كلمة أو كلمات. والحقيقة المشاهدة أن كثيرا من المعاني العقلية ليست مما يتمثل للحس ويتسمى بالأسماء، ومنها الأقيسة والمقارنات.
ومذهب السلوكيين ينقض نفسه بنفسه في تعليل التفكير بالقدرة على الكلام. فانهم يزعمون أن الإنسان لم ينفرد بالسلوك أو يتفاعل الغرائز الجسدية التي تجري مجرى التصرف