قتل غاندي في هذا الأسبوع، فكتب كاتبون ونظم شعراء. وقرأت لهؤلاء وهؤلاء، فلم أقع على مثل ما كتب العقاد.
قال في تصوير هذا الحادث:(لم يحدث قط أن ترتفع يد بالشر إلى رجل لا يسفه الأحلام ولا يبشر بغير الإسلام، رجل في الثامنة والسبعين يكف الشر في النفوس بوقار سنه وضعف شيخوخته وطيب سكينته واستسلامه رجل يدين بما يدين به قاتله المتعصب لعقيدته. وقصارى ما تنتهي إليه تلك العقيدة - عند ذلك القاتل التعس - أن قتل البقرة حرام، وأن قتل القديس العظيم مَباح).
وقال:(قيل منذ أيام أن قذيفة ألقيت على غاندي فنجا منها. فوقع في الأنفس أن نجاته من تلك القذيفة من أحداث الطبيعة لا غرابة فيه. . . كأن المادة نفسها تهاب أن تمضي بالأذى إلى هيكل ذلك الروح. . . كأن القذيفة ترتد - ولا تستطيع إلا أن ترتد وحدها - عن القداسة التي أخضعتها، ولم تخضع لها قط في تجارب الحياة. فلما قيل إنه قتل بيد إنسان، قد والله سألت: كيف تحركت عضلة في جسد بشري بضربة قاتلة لذلك الشهيد؟ قد والله سألت عن اليد التي لا تعقل، لأنها كانت خليقة أن تعجز عن الحراك إذا سيمت مثل هذا الحراك الذي يشذ عن كل قانون. . . ولم أسأل كيف سولت نفس ولا كيف هجس ضمير، لأن من الهول الهائل أن يدخل مثل هذا الجرم في حساب نفس أو ضمير).
وقد بلغ الغاية في تحقير القاتل مع الرثاء له بقوله:(ومن يقتل شرف الإنسانية كلها إلا مخلوق يخجل من إنسانيته كل إنسان، بل كل حي من الأحياء، وكل ضاربة من ناهشات الأبدان، وكل ساعية من نافثات السموم. ويسألون: أي جزاء يجزى به وراء الإعدام في جانب الوصمة الأبدية يحملها المسكين وحده في تاريخ البشرية بأسرها. فيذكر وحده إذا ذكر الخزي الذي لا خزي مثله في طوايا التاريخ. هذا هو الإنسان في بؤرته السفلى. وذاك هو الإنسان في ذروته العليا).
ولقد دفع إلى صاحبي بهذا المقال فقرأته، ودفعته إلى صاحبنا الثالث ليقرأه، وقد اعتدنا أن نتناول شيوخنا بألسنة حداد فما نُفلت أحداً منهم، ولكن حينما قرأنا مقال (هذا هو الإنسان) نظر بعضنا إلى بعض وسكتنا، لا لأنا جاحدون، بل لأننا متفاهمون.