للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

صحيح أن الرزق مقدر، فهذا وضع له رزقه على مكتبه، فما عليه إلا أن يقعد على كرسيه، ويمسك قلمه، ويكتب اسمه الكريم كل نصف ساعة مرة على أوراق تعرض عليه، وهو يشرب قهوته، ويدخن دخينته، فيأتيه الرزق؛ وآخر وضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه، أو في باطن الأرض ينزل إليه، أو في جوف البحر يغوص فيه، أو في جيوب الناس يأخذه منها، ليقبض عليه، فيتحول رزقه إلى السجن.

كل يأكل لقمة، ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صحفة من الفضة، ومن يأكلها مغموسة بالدم، أو مبللة بالعرق، أو ملطخة بالوحل.

لا لا تقل ما سر القدر، فما كشفه حاجة لأحد، ولكن، مادام الأمر مجهولاً، فاسع أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب، وجد وابذل الجهد، فإن لم تصل إلى ذلك وصلت إلى الرضى والتسليم بحكم القدر وهذي من حكم القدر.

والأجل محدود، لا يدفعه إذا حضر حذر، ولا يضر إن امتد خطر، وقد يموت الشاب الصحيح، ويعيش الشيخ العليل، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار، ويسلم الجندي الذي يقتحم النار، أعرف رجلاً من أبطال الثورة السورية، رمى نفسه على الموت خمسين مرة فكان الموت يروغ من تحته ويهرب منه، ثم انتهت الثورة، ونام في فراشه، فاختصم اثنان من السكارى، فأطلق أحدهما رصاص مسدسه، فأصاب خطأ رأس صاحبنا الذي نام فما قام.

وروى ابن الجوزي أن رجلاً أغمي عليه فحسبوه مات، ونصبوه على السرير، وجاؤوا بالمغسل ليغسله، فلما أحس برد الماء، تيقظ ونهض، فارتاع المغسل وسقط ميتاً.

فلا تسأل ما السر، ولكن جاهد في سبيل الله، وناضل عن الحق، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك لأن الأجل محدود، فقد تعيش مائة سنة ولو خضت غمرات الموت، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كأنك ميت غداً، فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة، وهذي حكمة من حكم القدر.

فالإيمان بالقدر حياة لأنه يفتح لك في كل ظلمة شعاع ضياء، وفي كل عسرة باب رجاء، ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل أن يميته المرض، ولقتل الجندي في الحرب من خوفه قبل أن يقتله العدو، ولولا الرجاء ما كانت الحياة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>