هي التي أرّثت الحرب والعداوة بينهما لتؤثّل في هذه الأرض أموالاً وآطاماً وحصوناً تكون لها عدة وقوة، وتظهرها على أهل البلاد المالكين لها، وتصرف وجه هؤلاء القوم عن الزراعة والتجارة وتثمير الأموال بالربا ومآكل السحت. وهذا عمل يهود في كل جيل، وفي كل أمة، وفي كل زمان إلى يوم الناس هذا.
ثم لا يلبث أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً من الخزرج عند العقبة، وكانت يهود كما قال ابن إسحاق، قد عَزُّوهم ببلادهم، أي غلبوهم عليها واستأثروا بها، فلما دعاهم رسول الله إلى الإسلام قالوا له:(إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك). فيؤلف الله قلوب الأوس والخزرج، وهما الأخوان، على الإسلام فيفشو بينهما فُشواً ظاهراً. ولا يلبث رسول الله أن يهاجر إلى المدينة، فلا يبقى حي من الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام وظهر فيه. فيمر شأس بن قيس من يهود بني قينقاع - وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فيغيظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم من العداوة في الجاهلية، فيقول:(قد اجتمع ملأ بني قيلة (يعني الأوس والخزرج) بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار). فيأمر فتى شاباً من يهود أن يجلس إليهم فيذكر (يوم بعاث) وما كان قبله، وينشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فيفعل هذا اليهودي، فإذا الجماعة المؤتلفة على الإسلام تتنازع وتتفاخر، فيتواثب رجلان من الأوس والخزرج، فيقول أحدهما لصاحبه:(إن شئتم رددناها الآن جَذَعة)، ويغضب الفريقان جميعاً ويقولون:(قد فعلنا، موعدكم الظاهرة (يعنون مكاناً بعينه)) ويتداعون: (السلاحَ السلاحَ). ويخرجون إلى موعدهم، فيبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فيخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى إذا جاءهم قال:(يا معشر المسلمين! الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم؟) فيعرف الأنصار، أوسهم وخزرجهم، أنها نزعة من الشيطان وكيد من (عدوهم)، فيبكون ويتعانقون، ثم ينصرفون مع رسول الله سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله