للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فوقه، ويتكبر هو على من تحته، حتى أن الشرطي ليطغى على البائع المتجول، والبائع يطغى على امرأته، والمرأة على ولدها، والولد على القطة يضربها بالعصا أو الكلب يرميه بالحجر، كل يحاول أن يظلم كما ظُلم. والمجرم الأكبر هو الظالم الأول. إنهم كالحيوانات تماماً، الجرادة تأكل البعوض، والعصفور يأكل الجرادة، والحية تقتل العصفور، والقنفذ يقتل الحية، والثعلب يسطو على القنفذ، والذئب يسطو على الثعلب، والأسد يفترس الذئب، والإنسان يقتل الأسد، والبعوضة تقتل الإنسان، فتغلق الحلقة على عدوان بعد عدوان. . .

كم تلقون كل يوم من هم دونكم فلا تتنازلون بالالتفات إليهم، ولا تفكرون فيهم، ولا تشعرون بوجودهم، ثم تتألمون إذا أعرض عنكم من هو فوقكم، وتجاهل مكانكم، وترون ذلك جرحاً لشعوركم وكسراً لقلوبكم، فلماذا تطلبون ممن فوقكم ما لا تعطونه من هم دونكم؟ أليس لهؤلاء نفوس تحس، وقلوب تتألم؟

درت أمس بشحاذة على شط النيل الصغير، في الروضة، وأمامها بنت لها تحبو، وصلت إلى كومة أوساخ فنبشت فيها حتى وجدت بقية لعبة فحملتها فرحة بها وعادت إلى أمها مستبشرة فأخذتها منها ومسحتها وحاولت أن تصلحها وتعيد الحياة إليها وقد فارقتها الحياة منذ أزمان. . .

فلويت وجهي ألماً من منظر هذه القذارة، ثم عدت ألوم نفسي وأسائلها، ما ذنب هذه الأم إذا أحبت ابنتها وأرادت إسعادها؟ وما ذنب هذه البنت إذا طلبت حق الطفولة الطبيعي باللعب؟

لماذا أشتري لبناتي كل أسبوع لعبة، ولم يخطر على بالي أبداً أن في البلد أطفالاً لا يجدون لعباً. إننا نحسب أننا إذا أطعمنا أطفال الفقراء الخبز، فقد أدينا حق الله وحق المروءة والإنسانية علينا. ولكن الطفل لا يكفيه الخبز ولا يرضيه، يرى أطفال الناس يمرون به كل ساعة، وعليهم أبهى الثياب، ومعهم أغلى اللعب، إنه بين أمرين إما أن يتبلد حسه، وتموت نفسه، فلا يطمع أن يجاري هؤلاء ولا يأمل أن يكون مثلهم أبداً فينشأ ضعيف الهمة، ذليلاً مهيناً، فيكون من أسباب ضعف هذه الأمة وهوانها على الأمم، وإما أن يثور ويغضب ويمتلئ قلبه الصغير حقداً، ثم يكبر ويكبر الحقد معه حتى يكون عدواً للمجتمع ونقمة على الناس، يظلمهم كما ظلموه، يسرق من يستطيع سرقة ماله. ويزهق روح من يتمكن من إزهاق روحه، وينشر الفساد في الأرض. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>